العدل
مع الاسم العشرين من أسماء الله الحسنى، والاسم الذي يطالعنا هو: العدل فقد اتفقت الأمة على إطلاق هذا الاسم على الله تعالى وهو مصدر عَدَلَ يَعْدِل عدلاً فهو عادل، عُدِلَ عن اسم الفاعل عادل إلى المصدر العدل، فمن أسمائه جل جلاله ؛ الحَكَمُ العَدْلُ، هذا المصدر أقيم مقام الاسم، كأن تقول الرب بدل الراب، والبَر بدل البار، والرضا بدل الراضي، والعدل بدل العادل، إذاً فاعلم أن أحد أسماء الله الحسنى العدل.
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى عدل في خلقه، وعدل في تشريعه وعدل في أمره التكويني، وفي أفعاله، أي عدل في خلقه وعدل في أمره وعدل في فعله، خلق وأمر وفعل فعدل فهو عدل.
عدل في خلقه، فمكان اليد مناسب جداً، و في موقع متوسط، و الشيء المعتدل الذي هو بين الإفراط والتفريط، فمفتاح الكهرباء مثلاً إذا وضع في مكان يتناسب مع أهل البيت، فالأب ييحرك يده إلى مستوى معين فيطالعه، و الأم والابن وجميع من في البيت يستعملونه براحة فهذا المكان معتدل، ولو كان مرتفعاً لاحتاج الأمر إلى سلم، ولو كان منخفضاً مع الأرض لاحتاج الأمر إلى أن ينبطح الإنسان ليتألق المصباح، أما أن يكون هذا المفتاح في مكان معتدل بين الارتفاع والانخفاض فهذا المكان اسمه مكان معتدل، والاعتدال من العدل والاعتدال هو التوسّط، ودائماً التوسّط هو الموقف الأكمل بين الإفراط والتفريط.
و لو أن الإنسان رأى في كأس الماء كل الكائنات الحية لما شرب الماء، فلو أن العين بلغت من الدقة بحيث ترى كل شيء لاستحالت حياتنا شقاءً، ولو أنَّ العين بلغت من ضعف الرؤية ألا ترى الشيء الخطر لهلكنا، إذاً في الحالة الأولى إفراط وفي الثانية تفريط، فعتبة الرؤية لها حد معتدل، فالله سبحانه وتعالى عدل في خلقه.
وأما عن عتبة السمع، فهناك أصوات لا تسمعها، ولو سمعتها لما نمت الليل، فالموجات الصوتية تتخامد، وليست كالأمواج الكهرطيسية التي لا تتخامد، وقد أطلقت مركبة إلى كوكب المُشتري وبقيت مركبة الفضاء تطير في الفضاء بسرعة أربعين ألف ميل في الساعة، فقضت ست سنوات إلى أن وصلت، وأَرسلت منه رسائل بالراديو، وكما يقولون فإن الأمواج الكهرطيسية لا تتخامد بل تبقى سِعَتُها هيَ هيَ، لذلك فهذه الأمواج الكهرطيسية هي سبب البث الإذاعي، والفاكس والتلكس، فالأمواج الصوتية العادية تتخامد، ولو كانت كالأمواج الكهرطيسية، لسمعت في دمشق وفي هذا المسجد كل صوت في الأرض، كصوت أمواج البحار، ومعامل الفولاذ، وانفجارات البراكين، ولأصبحت الحياة مستحيلة، إذاً عتبة السمع وتخامُد الأصوات هذا خلق معتدل، بين الضجر الذي لا يُحتمل وبين الضعف الذي لا يقابل إذاً:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾
(سورة القمر)
إذاً فبصرك بقدر، وسمعك بقدر، ورؤيتك بقدر، والإنسان أحياناً تُجرح يده فلو أمسك باب الثلاجة عندئذٍ لأحس بلسع الكهرباء الساكنة، ولو تناول طعاماً فيه حمض لتألم، فيقال لك: عرق ملح، ولو أن الأعصاب الحسية نمت أكثر مما هي عليه لأصبحت الحياة مستحيلة، وكذلك أعصاب الضغط وأعصاب الحس والسمع والرؤية والحركة.
فمفصل المرفق في مكان معتدل بحيث يمكن أن تأكل، ولو لم يكن هذا المفصل فلابد من أن تنبطح كالقطة، إذ تضع الصحن على الأرض وتنبطح وتأكله بلسانك، ولا يوجد طريقة ثانية فمكان المفصل معتدل.
وضع اليد على الكتف، فلو كانت على الورك إلى الأسفل مع القدم لفسد كثير من أمرك، أو لو أن العين في قمة الرأس أو في الظهر أو في الكف، لاختل نظام حياتك وعملك، فما معنى: الله خلقه ؟
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾
(سورة الإنفطار)
أي خلقك أيها الإنسان بحواسك وأعضائك وأجهزتك والغدد الصماء وجهاز الهضم والقلب والرئتين وكل ذلك باعتدال، إذاً فسوّاك فعدلك.
وكذلك تجد الاعتدال بخيوط النسيج، فلو أن الثوب يهترئ من لبسة واحدة لشق الحال على الناس. فليس معقولاً أن تتصور إنساناً اشترى قطعة جوخ وفصّلَهَا وأخذ قياسات، الحين بعد الحين، وبعد شهر استلمها صاحبها ثم لبسها لبسةً واحدةً واهترأت ! فترى الخيط له متانة معتدلة تلبسها سنة أو سنتين وتهنأ بها، ثم تهترئ، إذاً فالخيوط تماسكها باعتدال.
وهذه الدجاجة تعطي كل يوم بيضة، فلو أعطت كل شهر بيضة لكان البيض غالي الثمن كثيراً، و لو كان ثمن العلف للبقر يفوق ثمن حليبها فلا يُربي أحد بقراً، إذاً كمية الحليب التي تنتجها البقرة بالقياس إلى ثمن العلف باعتدال.
ويمكن أن تسير بهذا الطريق إلى مائة عام، فتشعر وتتحقق:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾
لا إفراط ولا تفريط ولا تهور ولا تقصير، ولا مبالغة ولا إيجاز، بل كل شيء خلقه الله باعتدال، فهو عدل في خلقه.
بُعد الأرض عن الشمس، باعتدال فلو أن الشمس أقرب لأصبحت الأرض فرناً، ولو أنها أبعد لأصبحت الأرض قبراً جليدياً، إذاً الشمس والقمر بحسبان والمسافات بمنتهى الدراسة الدقيقة.
والطفل يبقى في بطن أمه تسعة أشهر، ولو بقي خمس سنوات فأمر لا يُحتمل، ولو كان الحمل أسبوعاً واحداً لأصبح عندك مائتا ولد وهذا شيء لا يحتمل أيضاً، ولو كان المبيض عند المرأة ينتج البيوض إلى ما لا نهاية كالرجل لكنت تراها في الخامسة والثمانين حاملاً ويجيئها المخاض، وهي عجوز بلا أسنان، فالبيوض عدد معتدل وحينما تنفذ هذه البيوض في سن اليأس أي في الخامسة والأربعين إلى الخمسين فلا حمل من بعد، فهذه رحمة الله بالمرأة، فهو عدل في خلقه.
هذه أمثلة مرتجلة غير معدة مسبقاً، من خلق السماوات والأرض و الشمس و القمر والليل والنهار، ولو كان النهار خمسين ساعة وطاقتك ثماني ساعات، تفتح المحل وتغلقه وتذهب إلى البيت وتنام في النهار وغيرك يعمل، لا ينيمك الليل، تعود وتعمل مرة ثانية فحياة لا تحتمل ولو جعل النهار خمسين ساعة والليل خمسين ساعة تنام وتستيقظ وتعمل وتنام وتستيقظ وتعمل ولعمّ الخلل وانعدم النظام، قال تعالى:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)﴾
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)﴾
(سورة القصص)
إذاً: يجب أن تؤمن بأن طول الليل وطول النهار وبعد الشمس و القمر عن الأرض، وحجم القمر و الأرض كله عدل وبقدر:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾
( سورة القلم )
ولو أن حجم الأرض خمسة أمثال حجمها الحالي، فوزنك يتضاعف خمسة أمثال وتصبح حركتك أشغالاً شاقة لأنَّ وزن الإنسان متعلق بحجم الأرض، والدليل وزن الإنسان على سطح القمر سدس وزنه الحالي يهبط من ستين كيلو إلى عشرة.
إذاً: حجم الأرض وكثافتها وقوة جذبها وبُعدها عن الشمس وعن القمر وهي تجري وتدور، كل ذلك باعتدال، فسبحان من خلق فسوى.
وأما المحاصيل، فلو أن القمح ينضج تباعاً كالبطيخ، لاحتجنا إلى أن نمسك سنبلة سنبلة لنتبيّن هل نضجت فنقطعها أم لا فنتركها ؟ لكن السنابل تحتاج ثلاثة أشهر ثم تستحصد كلها دفعة واحدة وتجمع القمح في يوم واحد، أما الفواكه فتنضج تباعاً.
إذاً:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾
(سورة الإنفطار)
فالله سبحانه وتعالى عَدْلٌ في خلقه، أي خلقه في درجة مناسبة حكيمة معتدلة دقيقة مدروسة كما يقولون، وهذا الذي قاله الله عز وجل في الآية السابقة ؛ عدل في خلقه.
إذا استيقظت صباحاً وصليت الفجر وجلست كي تفكر فيمكن أن تمشي في هذا الباب الطيب الذي يزيدك معرفةً بالله إلى مسافات طويلة، فانظر كل شيء فأمره إلى الاعتدال !
تصوّر لو كان قِشرُ البندورةِ للبطيخ، فلن تأكل بطيخة في حياتك لأنها لا تنتقل معك من مكان إلى آخر، وتصوّر قشرَ البطيخ للبندورة، فتصير كلها قشراً.. القشر معتدل والحجم والقِوام و الطعم معتدل والحلاوة معتدلة فتصميم ربنا عجيب.
وقد يصنع الإنسان حلويات بعيارات غير دقيقة فتنبو على الذوق، أما ربنا عز وجل خلق فقدر فتأكل التفاح والإجاص والكمثرى والعنب والتين والبلح، وكله باعتدال
إذاً: أول معنى من معاني العدل عدل في خلقه، يعني خَلَقَهُ بِحِكمة بالغة، وهذه آية أخرى تعبر عن هذا المعنى نفسه:
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
(سورة الأنعام من الآية 73)
يعني بالحق بالدرجة الحكيمة، المعتدلة التي لا تزيد ولا تنقص، فتأمل خلقك، ثم تأمل طعامك ؛ وكذلك أجل نظرك في خلق الإبل: قال تعالى:
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾
(سورة عبس)
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)﴾
(سورة الطارق)
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾
(سورة الغاشية)
هذا في خلقه فاعتبروا يا أولي الألباب.
والآن في أمره: أمرك أن تصوم ثلاثين يوماً في العام فلو أمرك أن تصوم ستة أشهر، فشيء فوق طاقة البشر، والدليل أن الإنسان يشعر أن آخر خمسة أيام من رمضان طويلة شاقة وكأن كل يوم شهر، فثلاثون يوماً هذا هو الحد المعتدل، وأمرك أن تُصلي خمس مرات فلو كانت خمسين صلاة وكل صلاة خمسون ركعة لما أطقنا ذلك فالأمر معتدل:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
(سورة البقرة من الآية 286)
فالصيام إذاً معتدل، والحج في العمر مرة، والزكاة ربع العشر، فالشريعة عدل إذاً، ولكن انظر في قوانين البشر أن بعض الضرائب بالمئة ثمانون إلى ثلاث وتسعين فكم يشعر الإنسان أنه مغبون، بينما الزكاة ربع العشر، النسبة المعتدلة بالألف خمس وعشرون ليرة وبالمائة ليرتان ونصف، وفي مائة ألف ألفان وخمس مائة، وفي مليون خمسة وعشرون ألفاً فالرقم مقبول، ومعه راحة نفسية، فالزكاة، والصيام، والحج كلٌ باعتدال، وحتى الأوامر فمثلاً غُضّ من بصرك، فلو كان الإنسان يمشي في الطريق وفاجأه منعطفٌ حادٌ وفجأة مرت أمامه امرأة فعليه أن يغض من بصره، لا أن يكفه كلية، فكف الصر كلية فيه عَنت ومشقة، لكن الله لطيف بعباده فلم يقل لا تنظر بل قال:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
(سورة النور من الآية 30)
ولو قال: غضوا أبصاركم. لَهَلَكنا جميعاً، ولكن جاء الأمر:
﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
فإذا حصل مفاجأة غير متوقعة وبأقل من عُشر الثانية غضضت بصرك فلا شيء عليك، فالأمر معتدل.
أَمرُ غضِ البصر معتدل، وأمر الزكاة معتدل، وأمر الصوم معتدل فإن سافرت رخّص لك بألا تصوم:
﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
(سورة البقرة من الآية 184)
وإن كنت على سفر فصلِّ ركعتين فقط في الرباعية، اقصُر من الصلاة، والقصر عند السادة الأحناف واجب.
وأنت على موعد مع السيارة ومع الطائرة ومع المطار وفكرك مضطرب، فقال لك صلِّ الظهر ركعتين، واجمع جمع تقديم وجمع تأخير فالشرع معتدل، والله عَدْلٌ في خلقه، وعَدْلٌ في أمره.
قبل أن نتابع الموضوع، فما حظ العبد من هذا الاسم ؟ نحن دائماً بأسماء الله الحسنى لنا هدفان كبيران، الهدف الأول أن نتعرف إلى الله، وهل في الحياة كلها موضوع أجدر من أن نعرف الله عز وجل، أي هذه الذات الكاملة التي ستبقى في جوارها إلى أبد الآبدين، والهدف الثاني طاعته لنسعد بقربه ورضاه وجنته.
وإذا أراد إنسان الزواج، فإنه يخطب عشر سنوات حتى يجد من يطمئن إليها لأنه كما يبو له أنه سيبقى معه العمر كله، أربعين أو خمسين سنة، وقال أحدهم: لمّا بدأت والدته تخطب له بقيت تخطب خمسة عشر عاماً، ثم استقرَّ الرأيُ على فتاة كانت قد ولدت يوم خرجت والدته لأول مرة للخطبة ؛ ويقولون الزوجة رفيقة العُمر ولابد من الأناة والتروّي لاختيارها، فأنت سوف تعيش في جوار الله ورحمته إلى الأبد، وهل هناك ذاتٌ تستحق أن تعرفها غير الله عز وجل، وهل هناك موضوع أخطر من أن تعرف الله تعالت قدرته، فلذلك ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، فإذا قلت يا لطيف، يا رحيم يا غني يا قدير ألا ينبغي أن تعرف ما معنى قدير.
وهناك أشخاص كثيرون يصابون بمرض، فيقول الطبيب لأحدهم: ليس لك أمل في الشفاء فتراه ينهار ! لأنه لا يعرف أن الله قادر على شفائه مهما يكن المرض عضالاً، ومهما يكن كلام الأطباء قطعياً، وهناك بنت مثلاً ولا أمل في شفائها والنتيجة الموت، ولكن ربنا عز وجل يخلق الشفاء إذا شاء ومتى شاء، فقد خلقه وشفيت، ويخلق من الضعف قوة، و من الضيق فرجاً، ومن اليأس مخرجاً، وعندما يقول الإنسان يا قدير وييأس فهو لا يعرف القدير، والذي نريد أن نقوله، هو أنك إذا عرفت القدير زالَ عنكَ اليأس، وأنا أؤكد أنك إذا أيقنت أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يشفيك من أخطر مرض وبِلا سبب فأنت ذا إيمانٍ حقاً ولا يأس مع الإيمان، يقول العارفون ويرددون: " يا رب لا كرب وأنت الرب "، وهل يتألم الإنسان والله موجود ؟ وهل يخاف والله موجود ؟ فهو يطمئنه، و ينصره و يقويه و يشفيه فاسمعوا كلام سيدنا إبراهيم في قوله تعالى:
﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)﴾
(سورة الشعراء)
يخلق، ويهدي، ويرزق، ويشفي، ويُحيي، ويميت، ويغفر؛ ذلكم الله رب العالمين لذلك: " يا رب لا كرب وأنت الرب "، وأكرر وأعيد هذا الكلام الدقيق ؛ لا يحق لمؤمن بالله أن يحزن، فالله معك فأحسن الظن والثقة بالله، قال تعالى:
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾
(سورة المائدة)
فمثلاً إذا كان هناك شخص قوي نسبياً في المجتمع وقال لآخر: أنا معك فلا تخف، وهذا رقم هاتفي، طبعاً هذا معتدٍ فقد يمنعه وقد لا يمنعه، وقد، وقد،...، لكن المؤمن إذا طمأنه الله فالأمن محقق وقال سبحانه:
(( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ))
وبعد، فلماذا تتعلم أسماء الله ؟ من أجل أن تَسعَدَ بِها، فتعرف أن الله رحيم لتعلم أن الله يعلم فهل تراقب نفسك، ولتعلم أن الله قدير وأنه غني... إلخ، إذاً حينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على شِفائك من مرضك وأنت مؤمن إذاً فلا تيأس.
ولماذا كانت نِسَب الانتحار في أعلى مستوياتها في بلاد الغرب، لأنهم لا يعرفون الله من خلال أسمائه، بينما في بلاد مظاهرها الحضارية متواضعة، و الحياة فيها خشنة والأمور صعبة، ومع ذلك فالانتحار فيها نادر جداً !! والسبب الإيمان بالله عز وجل.
كان لنا أستاذ في الجامعة في علم النفس، فحضر مؤتمراً لأمراض النفس في أوروبا، وقال لنا: لقد قلت في المؤتمر إنَّ نِسَبْ الأمراض النفسية في بلادنا قليلة جداً، والسبب أننا نؤمن بالله ونرضى بقضائه وقدره، والحقيقة أن المؤمن يسلم قياد نفسه لله ويقول: هكذا يريد الله، هذه مشيئة الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا ما يحول بينه وبين التوترات النفسية، وأجمل حديث:
((عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ))
(متفق عليه)
الذي أخذه له، والذي أعطاك تفضل به عليك، فإذا أيقنت أن لله ما أعطى وله ما أخذ فلا مشكلة إذاً.
موت طفل صغير في أسرة إيمانها ضعيف يسبب آلاماً لا تحتمل، بينما صحابي جليل له ابن مريض بمرض عُضال، فجاء من السفر وهو قلق عليه قال: يا فلانة كيف الصغير ؟ قالت له: هو في أهدأ حال، اطمئِنَّ، فهم منها أنه قد شفي فأعدت له الطعام، وفي بعض الروايات تزينت له وفي الصباح قالت له: لو أن الجيران أعارونا عارية ثم استردوها أتغضب؟ قال: لا. قالت: وكذلك فعل الله بابننا، لما قالت له: في أهدأ حال يعني هو ميت، يقولون إنه ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقص عليه الأمر الذي جرى كله، فقال عليه الصلاة والسلام: " بارك الله لكما في ليلتكما " وتروي الأخبار أنه أنجب غلاماً أنجب عشرة كلهم صاروا حفظة للقرآن.
إذاً ذاك حادث وفاة الابن في أسرة مسلمة، ولكن حادث وفاة الابن بأسرة غير مؤمنة، كثيراً ما تُجَنُ الأم فوراً، أو تكاد.
إذاً: معرفة أسماء الله من أجل أن نَسَعَدَ بِها، وأنت مع الله إلى أبد الآبدين فإذا عرفته في الدنيا فهذا عين العقل، وذلك أن تعرفه قبل فوات الأوان، وأن تعرفه وأنت في حياتك الدنيا معافى صحيح الجسم، مسراً.
والشيء الثاني: ما حظك من هذا الاسم، أنت مؤمن فماذا تستفيد من هذه الأسماء ؟ والنبي الكريم يقول:
(( تخلقوا بأخلاق الله ))
فأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط، يعني لا إفراط ولا تفريط، ففي أفعال الشهوة يحترز عن الفجور الذي هو الإفراط وعن الجمود الذي هو التفريط.
و قد نجد إنساناً كما يُقال " زير نساء "، إنه غارق في الشهوة إلى قمة رأسه، عدواني، ينتهك أعراض الناس، هذا فجور، وقد تجد إنساناً كما قالت المرأة: " يا أمير المؤمنين إن زوجي صوام قوام، لم ينتبه سيدنا عمر رضي الله عنه فقال: بارك الله في زوجك، فقال له أحدهم: إنها تشكوه يا سيدي ولا تمدحه فجاء به ونصحه، وقال له: إن لأهلك عليك حقاً "
وتروي الكتب عن واقعة أخرى أيضاً مفادها أن السيدة عائشة دخلت عليها امرأة بحالة زرية مهملة نفسها، فسألتها عن حالها، فقالت إن زوجي صوام قوام مما يشغله عني، في النهار صائم وفي الليل قائم، فالنبي أرسل إليه وقال يا فلان: أليس لك بي أسوة، ونصحه أن يعطي كل ذي حق حقه، وفي اليوم التالي جاءت هذه المرأة إلى السيدة عائشة، كما تروي الأخبار عطرة نضرة، فسألتها عن حالها فقالت أصابنا ما أصاب الناس.
فإذاً: نحن حينما نعرف اسم العدل، نعرف كيف نتخلق بأخلاق الله على ضوء هذا الاسم قال العلماء: أن نحترز عن الإفراط وهو الفجور والتفريط وهو الجمود ونبقى في الوسط وهي العفة، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)﴾
(سورة المؤمنون)
هذا الموقف العدل في علاقتك بالزوجة.
أما مع الأولاد، فإياك أن تعطيهم عطاءً يفسدهم أو أن تحرمهم حرماناً يحقدون به عليك، فأعط الواحد منهم المبلغ الكافي، وأعطه حاجته، ولو أعطيته فوق حاجته فإنك قد أفرطت، ولو أعطيته أقل من حاجته فإنك قد فرطت، والقول: وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من مال بغير علمه فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). والكسوة: اللباس. وقوله: " بِالْمَعْرُوفِ " أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط .
وفي أفعال الغضب يُحترز عن التهور الذي هو الإفراط والجُبن الذي هو التفريط ويبقى غي حدٍ وسط وهو الشجاعة، وفي العقل يُحترز عن الدهاء والخبث والمكر والخداع أو عن البلاهة والغباء، ويبقى في حدٍ كما قال: " لست بالخب ولا الخب يخدعني ".
وأدقُّ موقف لستُ من الغباء بحيث أُخدَع ولا من الخبث بحيث أخدع. حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾
أي في وضع معتدل بين الإفراط وبين التفريط.
وفي تربية الأولاد من السهل أن تكون عنيفاً، والعنف لا يحتاج إلى بطولة إن ضربته موجعاً إياه، حطمته، ومن ثم حقد عليك:
عن أبي هريرة: " علموا، ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف ".
وأيضاً لا ترخِ له الحبل فيتجاوز حده، فالاعتدال أن يبقى ابنك راغباً فيك خائفاً منك.
﴿ رغباً ورهباً ﴾
وهذا حد دقيق جداً فدائماً الحالات المتطرفة سهلة، فلا تكن ليناً فتُعصر، ولا تكن قاسياً فتُكسر، والخير وأن تكون بينك وبين الناس شعرة إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها فهذه هي البطولة، البطولة أن يكون الذي حولك في حيرة من أمرك، هم يرجونك ويخافونك في وقت واحد. قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾
(سورة البقرة من الآية 143)
وبعد، فلنا وقفه عند العدل في أفعاله، لقد تحدثنا عن العدل في خلقه وعن العدل في أمره و بقي العدل في فعله، فيجب أن تعلم علم اليقين أن في الكون عدالة مطلقة، لكن قد تُفاجأ بسؤال، إن فلاناً مستقيم بعمله التجاري فمحله التجاري كله منضبط، وأسعاره مسجلة، ومعتدلة، ولديه مستندات كاملة فجاءه موظف وافتعل مخالفة وكتبه ضبطاً وزجّهُ في السجن أليس هذا ظلماً صريحاً ؟
الجواب: هذه الحادثة بحد ذاتها هي ظلم ظاهري، أما لو ربطت حياة هذا الإنسان في بيته، مع أهله و جيرانه، ومع من هم دونه و مع من هم فوقه، وجمعت الحسابات كلها بعضها إلى بعض، لرأيت في هذا البلاء منتهى العدل وبالتعبير التجاري هناك حساب لا ظُلم فيه، أما حساب السندات هذه وحدها ففيها ظلم، ولكن وضمّهُ إلى ما فعله البارحة في البيت قبل أن ينام، فقد تخرج بالنتيجة ذاتها.
حادث جرت من عشر سنوات، اثنان تشاجرا في سوق مدحت باشا أحدهما معه سلاح فأطلق رصاصة، فأخطأت خصمه، وهناك من سمع الشجار فمد رأسه من دكانه فجاءت الرصاصة في عنقه قريباً من عموده الفقري، فُشُلَّ تماماً.
فاستوقفني رجل وقال: يا أستاذ أنت تحدثنا عن عدالة الله، فما صنع هذا: إنه رجل صالح فتح دكانه ليسترزق ويسعى على عياله وهو يبيع أقمشة، ولا ذنب له، سمع شجاراً، فمد رأسه فجاءت هذه الرصاصة في عنقه قريباً من عموده الفقري فأصبح مشلولاً، فأين عدالة الله ؟ قلت: والله أنا أعرف أن الله عادل، ولكنك أطلعتني على فصل من فصول هذه الحادثة، ولعل لها فصولاً لا نعرفها، لا أنا ولا أنت وأنا أسلم لعدالة الله.
فو الله الذي لا إله إلا هو ؛ إنها من غرائب المصادفات، والأصح أنها ليست مصادفات: وهي أن صديقاً لي من حي الميدان حدثني بعد عشرين يوماً عن حادثة مثيلة، قال: لنا جار كان وصياً على أموال أولاد أخيه الأيتام وبقي لهم معه عشرون ألفاً ـ ثمن بيت ـ والحادثة قديمة وكان البيت ثمنه عشرون ألفاً فرفض أن يعطيهم هذا المبلغ فشكوه إلى أحد علماء الميدان، الشيخ حسين خطاب، فاستدعاه واستدعى أولاد أخوته، فأصرَّ على عدم دفع المبلغ فقال الشيخ حسين رحمه الله بالحرف الواحد: يا بني هذا عمكم فإياكم أن تشتكوا عليه للقضاء، هذه الشكوى لا تليق بكم، ولكن اشكوه إلى الله " هذه الواقعة تمت الساعة الثامنة مساءً، في اليوم الثاني مد رأسه من الدكان فأصابته الرصاصة فشُلَّ جسمه.
وهذه حكاية رمزية، يقولون إن شوحة ( حدءة ) قالت لسيدنا سليمان: اسأل لنا ربك هل هو مهول أم عجول ؟ نريد أن نتحرك، فلما سأل الله عز وجل، قال له ربنا: قل لها إنني مهول لا عجول فلتأخذ راحتها، هذه الشوحة رأت أناساً يشوون اللحم فخطفت من هذا اللحم إلى عشها، وقطعة جمر بقيت متعلقة بقطعة لحم فأحرقت العش كله، عادت إليه من توها، فقالت: يا سليمان الحكيم، ألم تقل لي قبل قليل إن الله مهول، هاهو ذا عجول، فلما سأل الله عز وجل قال قل لها هذا حساب قديم.
وقال لي رجل هل من المعقول أن يعاقبني الله على ذنب لم أفعله حتى الآن، قلت: هذا العقاب جزاء ذنب قديم، فيجب أن تؤمن بعدالة الله المطلقة:
عن قتادة قال: عقوبة بذنبك يا ابن آدم. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
((لا يصيب رجلا خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))
ومرة كنت راكباً مع أخ في سيارته، فتجاوّزَ حده مع سيارة فضربه فتوقعت من الذي ضربت سيارته أن يكون عصبي المزاج ويغضب ويعلو صوته فنزل، ونظر إليه وقال له: اذهب، وأنت مسامح، فاستغربت والله، وفوجئت بأن الحادث أدى إلى أضرار للآخر بهيكل السيارة والمحرك، فلما رجع صاحبي إلى سيارته رأيت على خده دمعة، قلت له: ما القصة يا فلان ؟ قال: والله: منذ سنة ضرب شخص سيارتي وفي سيارته نساء محجبات فكبر علي أن أزعجه وقلت له: سامحك الله. فربنا بعد عام عاملني كما عاملت ذلك الشخص وكال لي بالمكيال الذي كلت به لغيري.
يجب أن تبلغ درجة من اليقين أن اعمل:
" اعمل ما شئت فكما تدين تدان ".
البِرُّ لا يَبلَى والذنب لا يُنسى والديّان لا يموت، اعمل ما شئت، تكون باراً بوالديك فالله عز وجل يلهم أبناءك أن يكونوا بررة بك وإن تخدِمُ تُخدم، " أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً "، " أنفقْ أنفقَ الله عليك " ولا أعتقد إلا أن أكثر القراء لديهم من مثل هذه الوقائع والأحداث الكثيرة، والعبرة منها كلها: أنه كما تدين تدان، وكذلك اعمل ما شئت فإنك مجزي به.
وهذه الحادثة ذكرتها أكثر من مرة، لكن أعيدها للعبرة الصارخة التي فيها: رجل عنده زوجة يحبها وتحبه يأكلان دجاجاً، طُرق الباب فتحت فإذا سائلٌ يسأل، فهمَّت أن تعطيه من هذا الدجاج فنهرها زوجها ومنعها أن تعطيه شيئاً، وقال اطرديه، نفذت أمره وطردته، وتمضي السنون فتسوء العلاقة بينهما ويشتد الخصام ويطلقها، فتقترن بزوج آخر وتعيش معه حياةً سعيدة وبعد خمس أو ست سنوات، وهي مع زوجها الثاني، وتأكل دجاجاً كما كانت تأكل مع الأول، طُرق الباب، فذهبت لتفتح الباب فاضطربت، قال زوجها: مالكِ ؟ قالت: سائل. قال: وليكن، قالت له: أتدري من هذا السائل إنه زوجي الأول، قال: أتدرين من أنا ؟ أنا السائل الأول.
طبعاً هذه حكايات لكن نحن نقتنص ما بها من عبرة، وأنا متأكد أنه لا يقع شيء في الأرض إلا وفق عدالة مطلقة، فدائماً إذا سمعت حكاية أو حادثة فيها ظلم، فسأنصحك هذه النصيحة قل لنفسك: لقد سمعت فصلاً أو عدة فصول من هذه الواقعة و بقي فصل لا أعرفه، ولو عرفته لرأيت العدالة المطلقة، فاعرف الفصل الأخير، دائماً ولا تتسرع، وتمهل ولا تحكم و قل: الله أعلم، وكفى بربك بعباده خبيراً بصيراً، الله يعلم ونحن لا نعلم.
و العوام لهم كلمات لا أحبها " إذا شفت الأعمى طبه مالك أرحم من ربه " لا أحبها، لا تقولوها إطلاقاً، ولا تعتقد أنه كُف بصره بسبب الظلم فارحمه وعاونه واخدمه وخفف عنه وهذا واجبك، ولكن لا تعتقد حرمانه نعمة البصر من ظلم قدمه، فالله عز وجل بيده الخير، لكن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
فاعلم علم اليقين أن الله عز وجل عدل في خلقه، وعدلٌ في أمره وعدلٌ في فعله، أفعاله كلها عادلة، ولذلك أقول مرة ثانية:
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله عنه أكثر ))
وشيء آخر:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
(سورة الشورى)
﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)﴾
(سورة الكهف)
وتقرأ عن زلزال أصاب البلدة الفلانية، فلعلك تفهم الزلزال فهماً مادياً من أنه اضطراب القشرة الأرضية، هذا الزلزال قوته ثمانية بمقياس رختر فأغادير في شمال إفريقيا كانت من أجمل مدن المغرب، تقع على البحر الأطلسي لكن فيها من الفسق والفجور والنوادي العارية، والملاهي الليلية، ودور البغاء والفنادق الغارقة في الإثم حتى قمتها مما لا سبيل إلى وصفه، فبمدة ثلاث ثوان أصبحت أغادير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. فاعتقدْ جازماً أن الزلزال بحكمة ولحكمة يريدها الله سبحانه، قال تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾
(سورة النحل)
إذاً: فالله سبحانه وتعالى عدل في خلقه، وعدل في أمره وعدل في فعله ونحن " المؤمنين " ينبغي أن نقف بين الإفراط والتفريط وأن نكون معتدلين في كل أفعالنا