أفعال العباد
حقيقة نسبة الأفعال للعباد
ومن هذا يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها . وأفعال العباد نسبتها إليهم على طريق الكسب لا الاختراع لأن الله تعالى هو المخترع لها ، والمقدر لها ، والمريد لها ، ولا يرد أنه كيف يريد ما نهى عنه ، لأن الأمر يغاير الإرادة بدليل أمره جميع الناس بالإيمان ، ولم يرده من أكثرهم لقوله تعالى :{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }يوسف:103، فنسبة الأفعال إلى العباد من نسبة المسبب إلى السبب أو الواسطة ، وهذا لا منافاة فيه ، لأن مسبب الأسباب هو الذي خلق الواسطة وخلق فيها معنى الوساطة ولولا ذلك الذي أودع الله تعالى فيها لم تصلح أن تكون واسطة وسواء كانت مما لم يودع العقل كالجماد والأفلاك والمطر والنار ، أو كانت عاقلة نم ملك أو إنسي أو جني .
اختلاف المعنى باختلاف النسبة اللفظية
ولعلك تقول : لا تعقل نسبة الفعل الواحد إلى فاعلين لاستحالة اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، فنقول : نعم ، هو كما قلتم لكن محله إذا لم يكن الفاعل إلا معنى واحد في الاستعمال .
أما إذا كان له معنيان فيكون الاسم مجملاً متردداً بينهما في الاستعمال ، وحينئذ لا يمتنع إطلاقه على كل منهما كما هو المعلوم من الاستعمال في الأسماء المشتركة أو في الحقيقة والمجاز كما يقال : قتل الأمير فلاناً ، ويقال : قتله السياف ، فإطلاق القتل على الأمير بمعنى غير المعنى الذي أطلق به على السياف ، فقولنا : إن الله تعالى فاعل بمعنى أنه المخترع الموجد ، وقولنا : إن المخلوق فاعل فمعناه أنه المحل الذي خلق الله تعالى فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم ، فارتباط القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع هذا إذا كان المحل عاقلاً وإلا فهو من ترتيب المسببات على أسبابها ، فصح أن يسمى كل ما له ارتباط بقدرة فاعلاً كيفما كان الارتباط ، كما يسمى السياف قاتلاً باعتبار ، والأمير قاتلاً باعتبار ، لأن القتل ارتبط بكليهما ، وإن كان ارتباطه على وجهين مختلفين ساغ تسمية كل منهما فاعلاً ، فمثل ذلك اعتبار المقدورات بالقدرتين ، والدليل على جواز هذه النسبة وتطابقها نسبة الله تعالى الأفعال إلى الملائكة تارة وتارة إلى غيرهم من العباد ، ومرة أخرى نسبها بعينها إلى نفسه ، فقال تعالى :{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }السجدة :11وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا }الزمر:42، وقال تعالى :{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ }الواقعة 36 بالإضافة إلينا ، ثم قال تعالى :{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً *فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً }الآيات 25- 27 من سورة عبس، وقال تعالى :{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }مريم 17 ، ثم قال تعالى :{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا}الأنبياء 91 ، والنافخ جبريل عليه السلام ، وقال تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }القيامة:17، والقارئ الذي يسمع النبي قراءته جبريل ، وقال تعالى :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ } الأنفال17.. { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى } الأنفال17 ، فنفى عنهم القتل وأثبته لنفسه ، ونفى عنه الرمي وأثبته لنفسه ، وليس المراد نفي الحس من قتلهم الكفار ورميه لهم عليه السلام بالحصباء ولكن المعنى أنهم ما قتلوهم ولا رموهم بالمعنى الذي يكون الرب به قتلهم ورماهم وهو الاختراع والتقدير إذ هما معنيان مختلفان ، وتارة ينسب الفعل إليهما معاً كقوله تعالى :{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}التوبة60.
وروت عائشة – رضي الله عنها - : أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق الجنين يبعث ملكاً فيدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسداً ، فيقول :يا رب ! أذكر أم أنثى ؟ أسوي أم معوج ؟ فيقول تعالى ما شاء ، ويخلق الملك ، وفي لفظ آخر : فيصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة .
فإذا فهمت هذا اتضح لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة ولا تناقض بينهما ، ولذلك الفعل ينسب تارة للجماد كما في قوله تعالى :{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا }إبراهيم 25، فالشجرة لا يتأتى منها الإتيان بثمرها ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم للذي ناوله تمرة : خذها لو لم تأتها لأتتك .. كما في الطبراني وابن حبان ، فإضافة الإتيان تختلف إلى الرجل وإلى التمرة ، فمعنى إتيان التمرة غير معنى إتيان الرجل ، فالإتيان منهما مجازان مختلفان في الاعتبار ، فمجاز إطلاق الإتيان على الرجل بمعنى أن الله خلق فيه القدرة والإرادة للإتيان بها .
وإتيان التمرة بمعنى أن الله يسبب من يأتي بها ، والحقيقة إنما هي إضافة الإتيان إلى الله تعالى في كل منهما ، ولأجل اختلاف الاعتبار في الوسائط تارة تكون ملاحظة الوسائط في الأفعال كفراً كما في جواب قارون لموسى عليه السلام بقوله :{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}القصص:78 ، وكما في حديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وهذا الكفر باعتبار أن الواسطة مؤثرة ومخترعة ، قال النووي : اختلف العلماء في كفر من قال : مطرنا بنوء كذا على قولين :
أحدهماهو كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام ، قالوا : وهذا فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره ، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء ، والشافعي منهم وهو ظاهر في الحديث ، قالوا : وعلى هذا لو قال : مطرنا بنوء كذا معتقداً أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء ميقات لـه وعلامة اعتباراً بالعادة ، فكأنه قال : مطرنا في وقت كذا ، فهذا لا يكفر .
واختلفوا في كراهته لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها ، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره ، فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ، ومن سلك مسلكهم .
والقول الثاني :في أصل تأويل الحديث : أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب : أصبح من الناس شاكر وكافر ، وفي الرواية الأخرى : ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين . فقوله : بها يدل على أنه كفر النعمة ، والله أعلم اهـ .
فأنت تراه قال باتفاق العلماء على أن من نسب الفعل إلى الواسطة لا يكفر إلا إذا اعتقد أنها هي الفاعلة المدبرة المخترعة ، وإذا لم تكن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار بحيث أن الواسطة علامة أو ظرف الخلق المقدور فيها فلا كفر ، بل تارة يندب الشرع إلى ملاحظتها كقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه )) .وقوله صلى الله عليه وسلم :((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ..
وذلك لأن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار لا ينافي رؤية المنة لله سبحانه وتعالى ، وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم بل وأثابهم عليها وهو الباعث لإرادتهم لها . والخالق لقدرتهم عليها كقوله تعالى :{ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص:44، وقوله تعالى :{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }يونس:26، وقـال تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }الشمس 9.
وإذا ظهر لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت الفهم الصحيح السليم .
فالمعاني أوسع من العبارات، والصدور أوسع من الكتب المؤلفات ، ولو وقفنا مع حقيقة اللفظ دون المجاز ، لم نجد إلى الجمع بين النصوص أو التفرقة من جواز ، ألا ترى إلى ما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله :{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ }إبرهيم :36 ، أترى أن إبراهيم يشرك مع الله تعالى الجماد وهو القائل :{ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }الصافات 95- 96 ، والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير فهو مشرك سواء كان الملحوظ معه جماداً أو آدمياً نبياً أو غيره ، ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد ، فجعل الله تعالى لها سبباً لحصول مسبباتها ، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن ، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسبب سبباً لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله وعظم شأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل الإنسان مخير أم مسير ؟
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكره المراء في الدين ، والجدال بين المسلمين ، خاصة في المسائل العويصة التي تضيع الوقت ، وتبدد الجهد ، وتفرق الجمع ، ولا يتسنى للعقل البشري أن يقول فيها القول الفصل ، والرأي الذي لا ينقضه رأي ؛ لأنها فوق مستواه ، وأعلى من مداه.
ومن هذه المسائل القدر، أو الإنسان مخير أم مسير ، مجبر أو مختار؟
وقد جاءت أحاديثه الشريفة تبين ذلك :
• عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم ، وهم يتراجعون في القدر ، فخرج مغضبا حتى وقف عليهم فقال : " ياقوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه ، فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به " رواه الإمام أحمد.
• وعن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه ، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال : " أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" رواه الترمذي.
• وقال عليه الصلاة والسلام : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل. ثم قرأ:"ما ضربوه لك إلا جدلا، بل هم قوم خصمون" رواه الترمذي.
هكذا كانت توجيهاته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذه المسألة من المسائل التي تحير العقول ، وقد تحيرت العقول فعلا ، فتعددت فيها المذاهب، وتباينت فيها الآراء ، وهي في جملتها تكاد ترجع إلى رأيين :
أولا ـ رأي الجبريين :
وهم يرون أن الإنسان مجبر في أفعاله ، لا إرادة له ولا اختيار ، ولا قدرة ، إنه أشبه بالريشة المعلقة في الهواء ، تحركها الرياح كيف تشاء .
واستدلوا على رأيهم بالعقل قالوا : لو كان للإنسان قدرة واختيار في خلق أفعاله ، لكان شريكا لله في الخلق ، وهذا مستحيل.
واستعانوا ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى : { ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) } [ الأنعام].
وقوله سبحانه:{من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم(39)} [ الأنعام].
ثانيا ـ رأي الاختيارين :
وهم يرون أن الإنسان مختار في أفعاله الاختيارية بخلاف الاضطرارية التي لا دخل له فيها ، وله القدرة على تنفيذ ما اختاره وأراده .
واستدلوا على رأيهم بالعقل فقالوا : لو لم يكن العبد مختارا ، وله قدرة على الفعل والترك ، لكان تكليفه بالشرع عبثا من الله ، والله منزه عن العبث، ولما استحق الإنسان المدح أو الذم على أفعاله ، والثواب أو العقاب عليها .
واستعانوا ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف/29].
وقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8) } [الزلزلة].
وعرض المشكلة بهذه الصورة لا يمكن أن يوصل إلى الرأي الذي يطمئن إليه القلب ، ويقنع به العقل.
وتأمل ما يقوله الدكتور/ عبد الحليم محمود رحمه الله :
" لقد شغلت مسألة القدر ، أو الجبر والاختيار ، أو أفعال العباد عقول الإنسانية منذ أن كان الدين ، أي منذ ابتداء تاريخ الإنسان على ظهر الكرة الأرضية.
وإذا أثيرت مسألة القدر في أي وسط كان ـ مهما كان قليل العدد ـ فإنها تقسمه إلى قسمين : يقول أحدهما بالجبر ، والآخر يقول بالاختيار.
لقد آثارها اليهود في دينهم ، ففرقت بينهم ، وقال بعضهم بالجبر ، وقال الآخرون بالاختيار.
وأثيرت في الديانة النصرانية على مجرى التاريخ ، فكان النزاع ، وكان الجدل ، وكان التحيز لرأي والتعصب له ، وانقسم رجال المسيحية إلى فريقين يختصمان.
وأراد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يتلاقى انشقاق الأمة بسبب إثارة هذه المشكلة ، فكان ينهى دائما عن إثارتها ، وعن الجدال فيها.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا مرضيا ، وهو لا يسمح حتى النفس الأخير من حياته الشريفة بأن تثار هذه المسألة .
ولم تثر هذه المسألة في عهد سيدنا أبي بكر لانشغال المسلمين بتوطيد دعائم الأمة الإسلامية منصرفين بذلك عن العبث في دين اله .
وكانت درة سيدنا عمر كفيلة برد كل من تحدثه نفسه بإثارة هذه المشكلة إلى جادة الصواب.
ومسألة القدر إذن من المتشابه ، إنها من أهم مسائل المتشابه.
وهي فضلا عن ذلك عصية على الحل ، إنها ليست قابلة للحل، وهي ليست قابلة للحل سواء أثيرت في الشرق أو الغرب ، وسواء أثيرت في القديم أو الحديث ، أو أثيرت في البادية أو في الحضر ، إنها مفرقة بين الباحثين فيها، ومهما طال الجدل ، فسوف لا ينتهون إلى نتيجة ، ومن أجل ذلك كانت الروح الإسلامية العامة تحرم الخوض فيها .
ومع ذلك فقد بدأت هذه المشكلة تتسلل شيئا فشيئا إلى المجتمع الإسلامي، حتى لقد احتلت يوما ما مركز الصدارة في الفكر الإسلامي النظري.
ولقد مهدت السياسة أولا لهذا التسلل ، وكانت السياسة أول عامل من عوامل إفساد التفكير النظري الديني في المجتمع الإسلامي السليم ".
هكذا وضح لنا أن هذه المسألة من الناحية العقلية :
• عصية على الحل
• مضيعة للوقت
• مبددة للجهد
• مفرقة للجمع
ما الآيات القرآنية فيجب أن تفهم على ضوء أن الإنسان يحيا بين جبر واختيار وأن الخالق قد منحه إرادة بها كان التكليف ، وعليها يكون الجزاء، ولا يعني أن الله يعين الإنسان على اختياره عدم مسئوليته عما يفعل.
ويحدث الخطأ في فهم الآيات القرآنية عندما تؤخذ آية ، وتغفل أخرى ، أو يستدل بجزء من آية ، ولا يلتفت إلى باقيها ، ومن المعلوم أن القرآن يفسر بعضه بعضا .
فإذا أردنا أن نفهم مثلا قوله تعالى : { من يضلل الله فما له من هاد(36)ومن يهد الله فما له من مضل } [الزمر/36ـ37] . فلابد أن يكون فهمنا لهذه الآية في ضوء الآيات الأخرى .
فنفهم قوله تعالى : { من يضلل الله فما له من هاد } في ضوء قوله تعالى :
• { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)} [ابراهيم]
• { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب(34)} [غافر]
• { كذلك يضل الله الكافرين (74)} [غافر]
ونفهم قوله تعالى : { ومن يهد الله فما له من مضل } في ضوء قوله تعالى :
• { والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم (17)} [محمد]
• { إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } [يونس/9].
وإذا أردنا أن نفهم قوله تعالى :{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} [الأنعام/125] فعلينا أن نتنبه إلى نهاية هذه الآية ، وهي قوله تعالى : {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)} فعدم إيمانهم ، ورفضهم الإسلام باختيارهم ، كان السبب في جعل الرجس عليهم ، فكان الضيق والحرج في الصدور نتيجة لذلك.
بهذا القدر يجب أن تبحث مسألة الجبر والاختيار ، أو الإنسان مخير أم مسير، ولا داعي للتنطع ، والتقعر طالما أن هذه المسألة عصية على الحل العقلي المجرد .
ولذلك لما جاء رجل إلى سيدنا على بن أبي طالب يقول : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر . قال : طريق دقيق. لا تمش فيه . قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر. قال : بحر عميق . لا تخض فيه . قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر. قال : سر خفى لله لا تفشه . ويقول الإمام علي رضى الله عنه : " إن الله أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا، وكلف تيسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السموات والأرض باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار" .
وقال الإمام أبو حنيفة عن القدر : " هذه مسألة قد استعصت على الناس، فأنى يطيقونها . هذه مسألة مقفلة ، قد ضل مفتاحها " .
ويقول الإمام جعفر الصادق رحمه الله : "إن الله تعالى أراد بنا شيئا ، وأراد منا شيئا ، فما أراده بنا طواه عنا ، وما أراده منا أظهره لنا ، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا " .
ويقول:" الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس ، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة " .
وعن وهب بن منبه أنه قال :" نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به".
ونختم هذا البحث بحديث لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول فيه :
" إذا ذكر القدر فأمسكوا " رواه الطبراني ، ورمز له السيوطي بالحسن .
هذا التوجيه النبوي الشريف هو الفصل ـ فيما نرى ـ في مسألة (الإنسان مخير أم مسير ) والله أعلم