الجمعة، 23 مارس 2012

موسوعة العقيدة - السمعيات : الجن


الجن


تعريف الجن
        الجن والشياطين في اللغة : ـ

        1ـ جن : ستر . قال تعالى : { فلما جن عليه اليل رءا كوكبا } [ الأنعام/76]
        والجان : الجن . قال تعالى : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان(74)}[الرحمن]
        والجان : نوع من الحيات أكحل العينين ، يميل إلى الصفرة ، لا يؤذي . قال تعالى : { فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب } [ النمل /10].
        ويجمع على ( جنان ) وفي الحديث : "إن فيها جنانا كثيرة " .
        والجنان : القلب . وفي المثل : " إذا فرح الجنان ، بكت العينان " .
        والجن : خلاف الإنس . مفرده جني وجنية .
        والجنة : الجن . قال تعالى : { من الجنة والناس (6) } [ الناس] .
        والجنة : السترة . قال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } [ المجادلة/16].
        وفي الحديث : " الصوم جنة " .
        والجنة : كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض . قال تعالى : { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله } [ الكهف/39].
        والجنين : الولد ما دام في بطن أمه . وجمعه : أجنة . قال تعالى : { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } [ النجم /32].

        والجن يقال على وجهين : ـ

        أحدهما : بالمعنى العام المقابل للإنس . فيشمل كل المستترين عن الحواس من : جن ، وملائكة ، وشياطين . قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } [الأنعام/100] والمقصود الذين قالوا : الملائكة بنات الله .
        والآخر : بالمعنى الخاص . فلا يشمل إلا الجن فقط ؛ لأن الروحانيين المستترين عن الحواس ثلاثة : أخيار وهم الملائكة ، وأشرار وهم الشياطين ، وأوساط فيهم أخيار وأشرار . وهم الجن.

        2ـ والشيطان مشتق من : شطن بمعنى : بعد ؛ لبعده عن الخير. أو من : شاط يشيط بمعنى احترق غضبا ؛ لأنه مخلوق من النار.
        وكل عات متمرد من الجن ، والإنس ، والدواب يقال له : شيطان .
        وقيل . إن خبث الجني ، فهو شيطان ، وإن زاد خبثه ، فهو مارد ، فإن زاد على ذلك وقوى ، فهو عفريت ، والجمع عفاريت .

        3ـ وإبليس مشتق من الإبلاس ، وهو الحزن الشديد من اليأس . ليأسه من دخول الجنة (1).

================

        المراجع والهوامش :

        1ـ انظر القاموس المحيط ، والوسيط ، ومفردات الراغب في مواد : جن ، وشطن ، وبلس .

        الجن والشياطين في القرآن الكريم

        ورد ذكر (الجن) في القرآن الكريم 22مرة ، و (الجان) 7 مرات ، و (الجنة) 10 مرات .
        وجاء ذكر (الشيطان) بالإفراد (70) مرة ،و(الشياطين ) بالجمع (17) مرة،
        وورد ذكر (إبليس ) في (11) موضعا.
        وكلها تدور حول المعاني التي سبق ذكرها .

__________________________________

لا مجال للتكذيب بعالم الجن

أنكرت قلة من الناس وجود الجنّ إنكاراً كلياً ، وزعم بعض المشركين : أن المراد بالجن أرواح الكواكب .

وزعمت طائفة من الفلاسفة : أن المراد بالجن نوازع الشر في النفس الإنسانية وقواها الخبيثة ، كما أن المراد بالملائكة نوازع الخير فيها .

وزعم فريق من المحْدَثين ( بفتح الدال المخففة ) : أن الجن هم الجراثيم والميكروبات التي كشف عنها العلم الحديث .

وقد ذهب الدكتور محمد البهي إلى : أن المراد بالجن الملائكة ، فالجن والملائكة عنده عالم واحد لا فرق بينهما ، ومما استدل به : أن الملائكة مستترون عن الناس ، إلا أنه أدخل في الجن من يتخفى من عالم الإنسان في إيمانه وكفره ، وخيره وشره .

عدم العلم ليس دليلاً

وغاية ما عند هؤلاء المكذبين أنه لا علم عندهم بوجودهم ، وعدم العلم ليس دليلاً .

وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده، وهذا مما نعاه الله على الكفرة : ( بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) [ يونس : 39] .

وهذه المخترعات الحديثة التي لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك ؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها ، حتى إذا اخترعنا ( الراديو ) ، واستطاع التقاط ما لا نسمع بآذاننا صدقنا بذلك ؟!

يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في ظلاله متحدثاً عن النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله ، فاستمعوا منه القرآن .

" إنَّ ذكر القرآن لحادث صَرْفِ نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكاية ما قالوا وما فعلوا ، هذا وحده كافٍ بذاته لتقرير وجود الجن ، ولتقرير وقوع الحادث ، ولتقرير أنّ الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق ، كما يلفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران ، مستعدون للهدى وللضلال ، وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ، فما يملك إنسـان أن يزيد الحقيقة التي يقررها سبحانه ثبوتاً .

ولكنّا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .

إنّ هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار ، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهاً وصفةً وأثراً ، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار ، نعرف منها القليل ، ونجهل منها الكثير ، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار ، وندرك بعض هذه القوى ، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها ، وتارة بصفاتها ، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق ، طريق المعرفة لهذا الكون ، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ، ويعش أبناؤنا وأحفادنا ، على ذرة من ذراته الصغيرة ؛ هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئاً يذكر في حجم الكون أو وزنه !

وما عرفنا اليوم – ونحن في أول الطريق – يُعدّ بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن ، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم ، لظنه مجنوناً ، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعاً !

ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية ، المعدة للخلافة في هذه الأرض ، ووفق مقتضيات هذه الخلافة ، وفي دائرة ما سَخّرَه الله لنا ؛ ليكشف لنا عن أسراره ، وليكون لنا ذلولاً ، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض ، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها مهما امتد بنا الأجل – أي بالبشرية – ومهما سُخّر لنا من قوى الكون ، وكُشِفَ لنا من أسراره – لا تتعدى تلك الدائرة ؛ ما نحتاج إليه للخلافة في هذه الأرض ، وفق حكمة الله وتقديره .

وسنكشف كثيراً ، وسنعرف كثيراً ، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته ، مِمّا قد تعدّ أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال !

ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة ، وفي حدود قول الله سبحانه : ( وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً ) [ الإسراء : 85 ] قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وَقَيّومه ، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود ، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله : ( ولو أنَّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [ لقمان : 27 ] .

فليس لنا والحالة هذه أن نجزم بوجود شيء أو نفيه ، وبتصوره أو عدم تصوره ، من عالم الغيب والمجهول ، ومن أسرار هذا الوجود وقواه ، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي ، أو تجاربنا المشهودة ، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها ، فضلاً عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !

وقد تكون هنالك أسرار ، ليست داخلة في برنامج ما يُكشَف لنا عنه أصلاً ، وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يُكْشَف لنا عن كنهه ، فلا يُكْشَف لنا إلا عن صفته أو أثره ، أو مجرد وجوده ؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .

فإذا كَشَفَ الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى ، عن طريق كلامه – لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً – فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم ، نتلقاها كما هي ، فلا نزيد عليها ، ولا ننقص منها ؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقّى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة ، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار ! " .

والقول الحق أن الجن عالم ثالث غير الملائكة والبشر ، وأنهم مخلوقات عاقلة واعية مدركة ، ليسوا بأعراض ولا جراثيم ، وأنهم مكلفون مأمورون منهيون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خلق الجن وطبيعتهم

        خلق الله الجن من النار. كما ورد في الحديث السابق : "وخلق الجان من مارج من نار" .
        وقال تعالى : { وخلق الجان من مارج من نار (15)} [الرحمن] والمارج: النار التي لا دخان لها .
        وقال سبحانه : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27) } [ الحجر ]
        فهي نار لا دخان لها ، تنفذ في المسام .
        وفي الآية دليل على تقدم خلق الجان على الإنسان .
        وخلق إبليس من النار أيضا : لأنه من الجن . كما قال تعالى : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } [ الكهف/50].
        وقال على لسانه : { خلقتني من نار وخلقته من طين } [ ص/76].
        ولم يبق الجن على طبيعتهم النارية ، كما لم يبق الإنس على طبيعتهم الترابية ، إنما صار الجن أجساما لها طبيعة خاصة ، وقدرة على التشكل بأشكال مختلفة . فالجني له القدرة على الظهور في صور متنوعة من إنسان ، أو حيوان ، أو نبات ، صغر الشكل أو كبر ، وتحكمه الصورة التي يبدو فيها ، بمعنى أنه لو ظهر في صورة إنسي . فقوته قوة رجل من الإنس ، وإن ظهر في صورة كلب ، كانت قوته قوة الكلب ، وإن ظهر في صورة حية ، كانت طبيعة الحية تحكمه .. وهكذا .
        ولكن الشيطان لا يستطيع أن يظهر في صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
        عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رآني في المنام : فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " (1).
        والدليل على أن الجني لم يبق على طبيعته النارية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمسكه بيده ، وأراد أن يربطه في أحد أعمدة المسجد، حتى يراه المسلمون ، ويلعب به صبيانهم.
        عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع على صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته ، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد ، حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان { رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددته خاسئا "(2).
        وفي رواية : " والله لولا دعوة أخينا سليمان ، لأصبح موثقا ، يلعب به ولدان أهل المدينة " (3).
        وفي رواية : " حتى وجدت برد لسانه على يدي" .
        وكذلك ظهر الجني في صورة رجل سارق ، وأخذه أبو هريرة ، وأمسكه ، ثم تركه .
        عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسم قال : إني محتاج ، وعلى عيال ، ولي حاجة شديدة.
        قال : فخليت عنه . فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك البارحة ؟
        قال : قلت يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته ، فخليت سبيله.
        قال : أما إنه قد كذبك وسيعود .
        فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه سيعود : فرصدته ، فجعل يحثو من الطعام . فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال دعني ، فإني محتاج ، وعلى عيال ، لا أعود . فرحمته ، فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك ؟
        قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته ، فخليت سبيله ،
        قال : أما إنه قد كذبك ، وسيعود.
        فرصدته الثالثة ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات . إنك تزعم : لا تعود ، ثم تعود.
        قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها .
        قلت : ما هن ؟
        قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية . فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح . فخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟
        قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله.
        قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها ، حتى تختم الآية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ـ وكانوا أحرص شئ على الخير.
        فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقك ، وهو كذوب . اتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟
        قال : كلا . قال : ذاك شيطان " (4).
        وأما قوله تعالى:{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}[ الأعراف/27] فالمقصود من حيث لا ترونهم على صورتهم الحقيقية : أما لو تمثلوا في صور معينة ، فيمكن رؤيتهم ، كما في هذين الحديثين .

        والجن يأكلون ويشربون : ـ

        عن جابر بن عبد الله،أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله عند دخوله ، وعند طعامه . قال الشيطان : لا مبيت ، ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء " (5).
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله " (6) .


        والجن يتزوجون ، ويتناسلون : ـ
        فعندما تحدث القرآن الكريم عن نعيم الجنة قال : { حور مقصورات في الخيام (72) فبأي الاء ربكما تذكبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان(74)} [الرحمن ].
        وعندما ذكر النفر الذين استمعوا للقرآن قال : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) } [ الجن /6] ، ووجود الرجال يستلزم وجود الإناث ، ويستلزم التناسل.
        وعندما حذرنا من إبليس قال : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)} [ الكهف].


        والجن مكلفون بعبادة الله تعالى : ـ
        قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) } [ الذاريات ] .
        وقد أرسل الله إليهم الرسل ، وختمهم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو رسول للإنس والجن . وقد تحدى بمعجزته الكبرى الإنس والجن .
        قال تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلم هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) } [ الإسراء ].
        وذلك بعد أن استمعوا له ، وعلموا أنه كتاب أنزل بعد توراة موسى قال تعالى :
        { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30)} [الأحقاف].
        وقد اجتمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لم يرهم في اللقاء الأول ، ولم يعلم بوجودهم ، حتى أخبره الله ، وقد التقى بهم في أكثر من مكان ، ليعلمهم شرع الله .
        وكان من عادة شياطين الجن أن يصعدوا إلى السماء ليستمعوا إلى الملائكة تتكلم ببعض ما يوكل إليهم من أمور . ثم ينزل الشياطين إلى الكهان. فيخبرونهم بما سمعوا ، بعد أن يضيفوا إليه أخبارا كاذبة، ليضلوا أتباع الكهان ، وعبدة الأصنام.
        وشاء الله أن ينتهي هذا الوضع مع بعثته صلى الله عليه وسلم .
        وتأمل ما جاء في الحديث التالي بهذا الخصوص :
        " عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ، وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ : وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟
        قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب.
        قالوا : ما ذلك إلا من شئ حدث . فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء .
        فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعواله ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
        فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدي إلى الرشد ، فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، فأنزل الله عز وجل وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن } (7).
        وتحكي لنا سورة الجن تفاصيل هذا الحدث العجيب.
        وعن عائشة قالت : قلت يا رسول الله : إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشئ: فنجده حقا قال : " تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ، فيزيد فيها مائة كذبة " (8).
        ودعى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى للاجتماع بهم .
        عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسم ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ، فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ولكننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب . فقلنا : استطير ، أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا : إذا هو جاء من قبل حراء .
        قال : قلنا يا رسول الله ، فقدناك ، فطلبناك ، فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم .
        فقال : " أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن" .
        قال : فانطلق بها ، فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم . وسألوه الزاد .
        فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم " (9).
        وعن معن قال : سمعت أبي قال : سألت مسروقا : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك ـ يعني ابن مسعود ـ أنه آذنته بهم شجرة (10).

        والجن يسكنون البر والبحر والجو : ـ
        ومنهم من يسكن مع بني آدم في بيوتهم ، ويسمون (العمار) أو (العوامر) ليس من حقهم أن يظهروا للإنس في أية صورة من الصور وإلا استحقوا القتل بعد إنذارهم .
        فعن أبي السائب مولى هشام بن زهرة ، أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته . قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره ، حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت . فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها . فأشار إلى : أن اجلس فجلست .
        فلما انصرف ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت ؟ نعم. قال : كان فيه فتى منا . حديث عهد بعرس . قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله . فاستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة ".
        فأخذ الرجل سلاحه ، ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به . وأصابته غيرة .
        فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل بيتك حتى تنظر ما الذي أخرجني.
        فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح ، فانتظمها به ، ثم خرج ، فركزه في الدار ، فاضطربت عليه . فما يدري أيهما كان أسرع موتا . الحية أم الفتى ؟
        قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له . وقلنا : ادع الله يحييه لنا.
        فقال : " استغفروا لصاحبكم " ثم قال : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا ، فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك ، فاقتلوه ، فإنما هو شيطان" (11).
        وفي رواية : " إن لهذه البيوت عوامر . فإذا رأيتم شيئا منها ، فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب ، وإلا فاقتلوه ، فإنه كافر " وقال لهم : "اذهبوا فادفنوا صاحبكم " (12).
        وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء : قال : " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " (13).
        أي ذكران الجن وإناثهم . فالخبث جمع خبيث ، والخبائث جمع خبيثة.

        والجن لهم قدرات فائقة : ـ
        قال تعالى : { قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39) } [النمل/39]
        وقال تعالى عن سليمان : { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب(36)والشياطين كل بناء وغواص(37)وءاخرين مقرنين في الأصفاد(38) } [ ص ] .
        وقال في وصف أعمالهم له { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور(13)} [ سبأ / 13]
        المحاريب : الأبنية المرتفعة يصعد إليها بدرج ، ولم تكن التماثيل محرمة ، والجفان : القصاع . والجوابي : أحواض الماء.

        والجن يموتون .ويبعثون . ويدخلون الجنة أو النار : ـ
        قال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقضون عليكم ءاياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (132) } [ الأنعام ] .
        وقال سبحانه : { وتمت كلمة ربك لأملآن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119) } [ هود ] .
        وروى الحاكم عن جابر قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها . ثم قال : " ما لي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا . ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة : { فبأي ءالاء ربكما تذكبان } إلا قالوا : ولا بشئ من نعمك ربنا نكذب . فلك الحمد " .
        وفي هذه السورة قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان (46)} فبأي ءالاء ربكما تكذبان (47) } [ الرحمن ] .
        وجاء في سورة الجن : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15) } [ الجن ].

===============

        المراجع والهوامش

1ـ رواه مسلم في الرؤيا 4/1775
2ـ رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ـ الفتح 6/527
3ـ رواه مسلم في المساجد 1/385
4ـ رواه البخاري في الوكالة 3/132 ، الفتح 4/598 يحثو : يقال : حثا يحثو ، وحتى يحثي : أخذ ملء يديه . لأرفعنك : أذهب بك أشكوك . وعلى عيال : على نفقة عيال ، ولي حاجة : وفي نسخة : ( وبي حاجة ) رصدته : رقبته وانتظرته . وكانوا : أي الصحابة . وفي الحديث دليل على أن الجن يأكلون من طعام الإنس ، ويتكلمون بكلامهم ، ويسرقون منهم ، ويكذبون عليهم ، وفيه دليل على اطلاع النبي على المغيبات .
5ـ رواه الإمام مسلم في الأشربة 3/1598وقوله: ( قال الشيطان) أي لإخوانه الشياطين .
6ـ رواه الإمام مسلم في الموضع السابق .
7ـ رواه الإمام مسلم في الصلاة 1/331 وقوله : (عامدين) أي قاصدين ، وسوق عكاظ كانت تقام قريبا من عرفة بين مكة والطائف : مرة كل عام : تجتمع قبائل العرب ، فيتعاكظون ، أي يتفاخرون ويتناشدون ، وظلت تقام إلى سنة 129هـ ثم خربها الخوارج ونهبوها ، و ( الشهب ) جمع شهاب ، وهو شعلة النار (اضربوا مشارق الأرض ومغاربها ) أي سيروا وابحثوا فيها كلها عن السبب . (وهو بنخل ) أي وهو في هذا المكان : نخل أو نخلة .
8ـ رواه الإمام مسلم في السلام 4/1750.
9ـ رواه الإمام مسلم في الصلاة 1/332 والأودية : جمع واد وهو أرض بين جبلين تجتمع فيها السيول ، والشعاب : جمع شعب ، وهو الطريق في الجبل . (استطير) أي طارت به الجن ( اغتيل) أي قتل خفية وسرا .
10ـ رواه مسلم في الموضع السابق . وقوله : ( من آذن النبي ) أي أعلمه بحضور الجن ، وهي الشجرة أنطقها الله له . كما قال : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث " مسلم 4/1782
11ـ رواه الإمام مسلم في السلام 4/1756 وأراد بالعراجين : الأعواد التي في سقف البيت . وفي رواية : ( إذ سمعنا تحت سريره حركة ) وقوله : ( أخشى عليك قريظة ) أي يقتله يهود قريظة وقوله : ( فآذنوه ) أي أعلموه وأنذروه ، فإن لم يذهب علمتم أنه ليس من عوامر البيت المسلمين ، ويقول في الإنذار : "أنشدكن بالعهد الذي آخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذونا ولا تظهرن لنا " وقال مالك يقول : " أحرج عليك بالله واليوم الآخر أن لا تبدوا لنا ولا تؤذينا" قيل : إن هذا الإنذار عام في جميع حيات الأرض . وقيل : إنه خاص بحيات المدينة للسبب المذكور في هذا الحديث ، وهو إسلام بعض الجن . بدليل حديث : "خمس يقتلن في الحل والحرم" منها الحيات ، ولم يذكر إنذارا ، وحديث الحية الخارجة بمنى فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها ، ولم يذكر إنذارا .
12ـ المرجع السابق وقوله : ( فحرجوا عليه ) أي قولوا للجن أنتم في حرج أي ضيق إن عدتم إلينا فلا تلومونا إن ضيقنا عليكم بالتتبع والطرد والقتل.
13ـ رواه البخاري في الدعوات ـ الفتح 11/134 ومسلم في الحيض 1/283

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أعمال الشيطان

        ذكر لنا القرآن الكريم أعمال الشيطان لنحذره ومن ذلك :

        1ـ الشيطان يسول ويزين :

        • { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى } [ محمد /25].
        • { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) } [ الأنعام ].

        2ـ الشيطان يفتن ويوسوس : ـ

        • { يا بني ءادم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [الأعراف].
        • { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما من سوءاتهما } [الأعراف]

        3ـ الشيطان يعد ويمني :
        • { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } [ البقرة /268]
        • { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [ النساء ]
        • { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64)} [ الإسراء ] .

        4ـ الشيطان يخوف ويضل :
        • { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) } [ آل عمران ] .
        • { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) [ النساء ].

        5 ـ الشيطان ينزغ وينسي :

        • { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)}[الأعراف]
        • { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله } [ المجادلة /19].

        6ـ الشيطان يمس ويؤذي :

        • { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(201)} [ الأعراف ]
        • { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب(41)} [ ص ]
        • { الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة /275].
        قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة : ( في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ، ولا يكون منه مس ) (1).

        ويقول الإمام الألوسي عن المس : ( أصله اللمس باليد . وسمى به : لأن الشيطان قد يمس الرجل ، وأخلاطه مستعدة للفساد ، فتفسد ، ويحدث الجنون ، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء ؛ لأن ما ذكروه سبب قريب : وما تشير إليه الآية سبب بعيد ، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن ، تعلقت به روح خبيثة تناسبه ، فيحدث الجنون ، وربما استولى ذلك على الحواس وعطلها ، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف، فتتكلم، وتبطش ، وتسعى بآلات ـ أعضاء ـ ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشئ من ذلك أصلا . وهذا كالمشاهد المحسوس . الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات ) (2).

===============

        المراجع والهوامش :

1ـ تفسير القرطبي ص 1163 ط الشعب .
2ـ روح المعاني بتصرف يسير 3/49 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قدرات الجن

أعطى الله الجنّ قدرة لم يعطهـا للبشر ، وقد حدثنا الله عن بعض قدراتهم ، فمن ذلك :

أولاً : سرعة الحركة والانتقال :

فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه ، فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك : ( قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وَإِنِّي عليه لقويٌّ أمينٌ – قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلمَّا رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ...) [ النمل : 39-40 ] .

ثانياً : سبقهم الإنسان في مجالات الفضاء :

ومنذ القدم كانوا يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء ، فيسترقون أخبار السماء ، ليعلموا بالحَدَث قبل أن يكون ، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم زيدت الحراسة في السماء : ( وأنَّا لمسنا السَّماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشهباً – وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسَّمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَّصداً ) [ الجن : 8-9 ] .

وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية استراقهم السمع ، فعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير .

فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه ، فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة . فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ) (1) .

خرافة جاهلية :

ومعرفة السبب الذي من أجله يرمي بشهب السماء قضى على خرافة كان يتناقلها أهل الجاهلية ، فعن عبد الله بن عباس قال : أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار : أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ) ؟

قالوا : الله ورسوله أعلم ، كنا نقول : ولد الليلة رجل عظيم ، ومات رجل عظيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ؛ ولكنّ ربنا – تبارك وتعالى اسمه – إذا قضى أمراً سبّح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ، ثمّ قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ماذا قال ، قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً ؛ حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجنّ السمع ، فيقذفون إلى أوليائهم ، ويرمون به ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يَقْرِفون فيه ويزيدون ) (2) .

وقد يكون استراقهم السمع بطريق أهون عليهم من الطريق الأولى ، وذلك بأن تستمع الشياطين إلى الملائكة الذين يهبطون إلى العنان بما يكون من أحداث قدرها الله ، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الملائكة تتحدث في العنان – والعنان الغمام – بالأمر يكون في الأرض ، فتستمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن الكاهن كما تقرّ القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة ) (3)

ثالثاً : علمهم بالإعمار والتصنيع :

أخبرنا الله أنه سخر لنبيّه سليمان ، فكانوا يقومون له بأعمال كثيرة تحتاج إلى قدرات ، وذكاء ، ومهارات : ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير – يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ رَّاسِيَاتٍ) [ سبأ : 12-13 ] .

ولعلهم قد توصلوا منذ القدم إلى اكتشاف مثل ( الراديو والتلفزيون ) ، فقد ذكر ابن تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره وقال له : " إن الجن يرونه شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج ، ويمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به ، قال فأخبر الناس به ، ويوصلون إليّ كلام من استغاث بي من أصحابي ، فأجيبه ، فيوصلون جوابي إليه " (4) .

رابعاً : قدرتهم على التشكل :

للجن قدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان ، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ، ووعد المشركين بالنصر ، وفيه أنزل : ( وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم ) [الأنفال : 48] .
ولكن عندما التقى الجيشان ، وعاين الملائكة تتنزل من السماء ، ولى هارباً : ( فلمَّا تَرَاءتِ الفئتان نكص علـى عقبيه وقال إني بريءٌ منكم إِنِّي أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) [ الأنفال : 48 ] .

وقد جرى مع أبي هريرة قصة طريفة رواها البخاري وغيره ؛ قال أبو هريرة : ( وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، وقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ، ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ )

قال : قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله ، قال : ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه سيعود ، فرصدته ، فجاءَ يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : دعني فإني محتاج ، وعليّ عيال ، لا أعود ، فرحمته ، فخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك ؟ ) قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله .

قال : ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فرصدته الثالثة ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات ، إنك تزعم لا تعود ، ثمّ تعود ! قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قال : قلت : ما هنّ ؟

قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [البقرة : 255] حتى تختم الآية ؛ فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قلت : يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله ، قال : ما هي ؟ قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [ البقرة : 255 ] وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير .

قال النبي : ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ) قال : لا ، قال : ( ذاك شيطان ) (5) .


فقد تشكل هذا الشيطان في صورة إنسان .وقد يتشكل في صورة حيوان : جمل ، أو حمار ، أو بقرة ، أو كلب ، أو قط ، وأكثر ما تتشكل بالأسود من الكلاب والقطط .

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة ، وعلل ذلك بأن ( الكلب الأسود شيطان ) (6) . يقول ابن تيمية : " الكلب الأسود شيطان الكلاب ، والجن تتصور بصورته كثيراً ، وكذلك بصورة القط الأسود ؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره ، وفيه قوة الحرارة " .

جنان البيوت :

تتشكل الجان بشكل الحيات وتظهر للناس ، ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات البيوت ، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان ) (7) .

وقد قتل أحد الصحابة حيّة من حيات البيوت ، فكان في ذلك هلاكه ، روى مسلم في صحيحه : أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، فوجده يصلي ، قال : ( فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت ، فالتفت ، فإذا حيّة ، فوثبت لأقتلها فأشار إليّ ؛ أن اجلس ، فجلست :

فما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم . قال : كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة ) .

فأخذ الرجل سلاحه ، ثمّ رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به ، وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني .
فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج ، فركزه في الدار ، فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتاً : الحية أم الفتى !

قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا فقال : ( استغفروا لصاحبكم ) ، ثم قال : ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنّما هو شيطان ) (8) .

تنبيهات مهمة حول قتل حيات البيوت :

1- هذا الحكم ، وهو النهي عن قتل الحيوانات خاص بالحيات دون غيرها .

2- وليس كل الحيات ؛ بل الحيات التي نراها في البيوت دون غيرها ، أمّا التي نشاهدها خارج البيوت فنحن مأمورون بقتلها .

3- إذا رأينا حيات البيوت فنؤذنها ؛ أي نأمرها بالخروج ، كأن نقول : أقسم عليك بالله أن تخرجي من هذا المنزل ، وأن تبعدي عنّا شرّك وإلا قتلناك . فإن رؤيت بعد ثلاثة أيام قتلت.

4- والسبب في قتلها بعد ثلاثة أيام أننا تأكدنا أنها ليست جنّاً مسلماً ، لأنها لو كانت كذلك ، لغادرت المنزل ، فإن كانت أفعى حقيقية فهي تستحق القتل ، وإن كانت جنّاً كافراً متمرداً فهو يستحق القتل ؛ لأذاه وإخافته لأهل المنزل .

5- يستثنى من جنان البيوت نوع يقتل بدون استئذان ، ففي صحيح البخاري عن أبي لبابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقتلوا الجِنَّان ، إلا كلّ أبتر ذي طُفْيَتَيْن ؛ فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر ، فاقتلوه ) (9) .

وهل كل الحيات من الجنّ أم بعضها ؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الحيّات مسخ الجنّ صورة ، كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل ) (10) .

خامساً : الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق :

في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) (11) ..

وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً ، فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ، ثمّ قمت فانقلبت ، فقام معي ليقبلني ( يردني ) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمرّ رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله !! قال : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً ) ، أو قال : ( شيئاً ) (12) .

===================================
(1) رواه البخاري في صحيحه : 8/538 . ورقمه : 4800 .
(2) رواه مسلم : 4/1750 . ورقمه : 2229 . ومعنى يقرفـون فيه أي الصدق بالكذب : يقذفون .
(3) رواه البخاري : 6/338 .ورقمه : 3288 .
(4) مجموع الفتاوى : 11/309 .
(5) صحيح البخاري : 4/486 . ورقمه : 2311 . ويرى بعض العلماء أن الحديث منقطع ؛ لأنه لم يصرح بالسماع من شيخه عثمان بن الهيثم ، والحديث وصله النسائي وغيره . انظر : فتح الباري : 4/488 .
(6) رواه مسلم : 1/365 . ورقمه : 510 .
(7) رواه مسلم : 4/1756 . ورقمه : 2236 .
(8) رواه مسلم : 4/1756 . ورقمه : 2236 .
(9) رواه البخاري : 6/351 . ورقمه : 3311 .
(10) رواه الطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، بإسناد صحيح ، راجع الأحاديث الصحيحة : 104 .
(11) صحيح البخاري : 13/159 . ورقمه : 7171 . ورواه مسلم : 4/1712 . ورقمه : 217 .
(12) رواه البخاري : 6/336 . ورقمه : 3281 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ضعف الجن وعجزهم

الجن والشياطين كالإنس، فيهم جوانب قوة ، وجوانب ضعف.

قال تعالى : ( إنَّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76 ] ، وسنعرض لبعض هذه الجوانب التي عرفنا الله ورسوله بها .

أولاً : لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين :

لم يعط الرَّب – سبحانه – الشيطان القدرة على إجبار الناس ، وإكراههم على الضلال والكفر : ( إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربك وكيلاً ) [ الإسراء : 65 ] . ( وما كان له عليهم من سلطانٍ إلاَّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممَّن هو منها في شكٍ ) [ سبأ : 21 ] .

ومعنى ذلك أن الشيطان ليس له طريق يتسلط بها عليهم ، لا من جهة الحجة ، ولا من جهة القدرة ، والشيطان يدرك هذه الحقيقة : ( قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض ولأغوينَّهم أجمعين – إلاَّ عبادك منهم المخلصين ) [ الحجر : 39-40 ] .

وإنما يتسلط على العباد الذين يرضون بفكره ، ويتابعونه عن رضا وطواعية : ( إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاَّ من اتبَّعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] . وفي يوم القيامة يقول الشيطان لأتباعه الذين أضلهم وأهلكهم : ( وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلاَّ أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] .

وفي آية أخرى : ( إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه والَّذين هم به مشركون ) [النحل :100] .

والسلطان الذي أعطيه الشيطان هو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال ، وتمكنه منهم ، بحيث يؤزهم على الكفر والشرك ويزعجهم إليه ، ولا يدعهم يتركونه ، كما قال تعالى : ( ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين تؤزُّهم أزاً ) [ مريم : 83 ] ، ومعنى تؤزهم : تحركهم وتهيجهم .

وسلطان الشيطان على أوليائه ليس لهم فيه حجّة وبرهان ، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم ، لما وافقت أهواءَهم وأغراضهم ، فهم الذين أعانوا على أنفسهم ، ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته ، فلما أعطوا بأيديهم ، واستأسروا له ، سُلّط عليهم عقوبةً لهم . فالله لا يجعل للشيطان على العبد سلطاناً ، حتى يجعل له العبد سبيلاً بطاعته والشرك به ، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً .

تسليطه على المؤمنين بسبب ذنوبهم :

ففي الحديث : ( إن الله – تعالى – مع القاضي لم يَجُر ، فإذا جار تبرأ منه ، وألزمه الشيطان ) . رواه الحاكم ، والبيهقي بإسناد حسن (1) .

ويروي لنا أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله – عن الحسن البصري – رحمه الله – قصة طريفة ، وبغض النظر عن مدى صحتها فهي تصور قدرة الإنسان على قهر الشيطان إذا أخلصه دينه لله ، وكيف يصرع الشيطان الإنسان إذا ضلّ وزاغ .

يقول الحسن : كانت شجرة تعبد من دون الله ، فجاء إليها رجل ، فقال : لأقطعن هذه الشجرة ، فجاء ليقطعها غضباً لله ، فلقيه إبليس في صورة إنسان ، فقال : ما تريد ؟ قال : أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله ، قال : إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها ؟ قال : لأقطعنها .

فقال له الشيطان : هل لك فيما هو خير لك ؟ لا تقطعها ، ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك . قال : فمن أين لي ذلك ؟ قال : أنا لك . فرجع ، فأصبح فوجد دينارين عند وسادته ، ثمّ أصبح بعد ذلك ، فلم يجد شيئاً . فقام غضباً ليقطعها ، فتمثل له الشيطان في صورته ، وقال : ما تريد ؟ قال : أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى ، قال : كذبت ما لك إلى ذلك من سبيل .

فذهب ليقطعها ، فضرب به الأرض ، وخنقه حتى كاد يقتله ، قال : أتدري من أنا؟ أنا الشيطان ، جئت أول مرة غضباً لله ، فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين ، فتركتها ، فلما جئت غضباً للدينارين سلطت عليك (2) .

وقد حدثنا الله في كتابه عن شخص آتاه الله آياته ، فعلمها ، وعرفها ، ثمّ إنه ترك ذلك كله ، فسلط الله عليه الشيطان ، فأغواه ، وأضله ، وأصبح عبرة تروى ، وقصة تتناقل :

( واتلُ عليهم نبأ الَّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشَّيطان فكان من الغاوين – ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الَّذين كذَّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلَّهم يتفكَّرون ) [ الأعراف : 175-176 ] .

وواضح أن هذا مثل لمن عرف الحق وكفر به كاليهود الذين يعلمون أن محمداً مرسل من ربه ، ثم هم يكفرون به .

أما هذا الذي عناه الله هنا ، فقال بعضهم : هو بلعام بن باعورا ، كان صالحاً ثم كفر ، وقيل : هو أمية بن أبي الصلت من المتألهين في الجاهلية ، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يؤمن به حسداً ، وكان يرجو أن يكون هو النبي المبعوث ، وليس عندنا نص صحيح يعرفنا بالمراد من الآية على وجه التحديد .

وهذا الصنف ( الذي يؤتى الآيات ثم يكفر ) صنف خطر ، به شَبَه من الشيطان ؛ لأنّ الشيطان كفر بعد معرفته الحق ، ولقد تخوف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النوع على أمته ...

روى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه ، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك ) . قال : قلت : يا رسول الله : أيهما أولى بالسيف : الرامي أم المرمي ؟ قال : ( بل الرامي ) ، قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد (3) .

ثانياً : خوف الشيطان من بعض عباد الله وهربه منهم :

إذا تمكن العبد في الإسلام ، ورسخ الإيمان في قلبه ، وكان وقّافاً عند حدود الله ، فإنّ الشيطان يفرق منه ، ويفرّ منه ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : ( إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ) (4)..

وقال فيه أيضاً : ( إني لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر ) (5) ، وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب : ( والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلى سلك فجاً غير فجك ) (6)

وليس ذلك خاصاً بعمر ، فإن مَن قوي إيمانه يقهر شيطانه ، ويذله ، كما في الحديث : ( إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر ) . رواه أحمد . قال ابن كثير (7) : بعد أن ساق هذا الحديث : " ومعنى لينصي شيطانه : ليأخذ بناصيته ، فيغلبه ، ويقهره ، كما يفعل بالعبير إذا شرد ثم غلبه " .

وقد يصل الأمر أن يؤثر المسلم في قرينه الملازم له فيسلم ، أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : ( وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير ) (8) .

ثالثاً : تسخير الجن لنبي الله سليمان :

سخر الله لنبيه سليمان – في جملة ما سخر – الجن والشياطين ، يعملون له ما يشاء ، ويعذب ويسجن العصاة منهم : ( فسخَّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب – والشَّياطين كل بنَّاءٍ وغوَّاصٍ – وآخرين مقرَّنين في الأصفاد ) [ ص : 36-38 ] .

وقال في سورة سبأ : ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير – يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ رَّاسياتٍ ) [ سبأ : 12-13 ] .

وهذا التسخير على هذا النحو استجابة من الله لعبده سليمان حين دعاه وقال : ( وهب لي مُلكاً لاَّ ينبغي لأحدٍ من بعدي ) [ ص : 35 ] . وهذه الدعوة هي التي منعت نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من ربط الجني الذي جاء بشهاب من نار ، يريد أن يرميه في وجهه ، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعناه يقول : ( أعوذ بالله منك ) ثم قال : ( ألعنك بلعنة الله ثلاثاً ) ، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً .

فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله لقد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً ، لم نسمعك تقوله من قبل ، ورأيناك بسطت يدك ، فقال : ( إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي ، فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة ، فلم يستأخر ثلاث مرات ، ثم اْردت أخذه ، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة ) (9) .

وقد تكرر هذا أكثر من مرة ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن عفريتاً من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع عليّ الصلاة ، وإن الله أمكنني منه ، فَذَعَتُّهُ ، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد ، حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون ، ( أو كلكم ) ، ثمّ ذكرت قول أخي سليمان : ( رب اغفر لي وهب لي مُلكاً لاَّ ينبغي لأحدٍ من بعدي ) ، فرده الله خاسئاً ) (10) . ومعنى يفتك : الفتك : الأخذ غفلة . وقوله : ( ذعته ) ، أي : خنقته .

كذب اليهود على نبي الله سليمان :

يزعم اليهود وأتباعهم الذين يستخدمون الجن بوساطة السحر أن نبي الله سليمان كان يستخدم الجنّ به ، وقد ذكر غير واحد من علماء السلف أنَّ سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب السحر والكفر ، وجعلتها تحت كرسيه ...

وقالوا : كان سليمان يستخدم الجن بهذه ، فقال بعضهم : لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان ، فأنزل الله قوله : ( ولمـَّا جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الَّذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون ) [ البقرة : 101 ] ، ثم بين أنهم اتبعوا ما كانت تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وبرأ سليمان من السحر والكفر : ( واتَّبعوا ما تتلوا الشَّياطين على مُلكِ سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا ) [ البقرة : 102 ] .

رابعاً : عجزهم عن الإتيان بالمعجزات :

لا تستطيع الجن الإتيان بمثل المعجزات التي جاءت بها الرسل تدليلاً على صدق ما جاءت به .

فعندما زعم بعض الكفرة أن القرآن من صنع الشياطين قال تعالى : ( وما تنزَّلت به الشَّياطين – وما ينبغي لهم وما يستطيعون – إنَّهم عن السَّمع لمعزولون ) [ الشعراء : 210-212 ] .

وتحدى الله بالقرآن الإنس والجن : ( قل لئِن اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً )[ الإسراء : 88 ] .

خامساً : لا يتمثلون بالرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا :

والشياطين تعجز عن التمثل في صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا :
ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من رآني فإني أنا هو ، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي ) (11) .

وفي الصحيحين عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ) . رواه مسلم من رواية أبي هريرة . وفي صحيح البخاري : ( وإن الشيطان لا يتراءَى بي ) .

وفيه من رواية أبي سعيد : ( من رآني فقد رأى الحقّ ، فإن الشيطان لا يتكونني ) .

وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة : ( ولا يتمثل الشيطان بي ) .

وفي صحيح مسلم من حديث جابر : ( من رآني في المنام فقد رآني ، إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي ) . وفي رواية أخرى عن جابر : ( فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي ) (12) .

والظاهر من الأحاديث أن الشيطان لا يتزيّا بصورة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية ، ولا يمنعه هذا من التمثل في غير صورة الرسول صلى الله عليه وسلم والزعم بأنّه رسول الله ، وهذا ما فقهه ابن سيرين رحمه الله ، فيما نقله عنه البخاري (13) .

ولذلك فلا يجوز أن يحتج بهذا الحديث على أن كل من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام أنّه رآه حقّاً ، إلا إذا كانت صفته هي الصفة التي روتها لنا كتب الحديث . وإلا فكثير من الناس يزعم أنّه رآه على صورة مخالفة للصورة المروية في كتب الثقات .

سادساً : لا يستطيع الجن أن يتجاوزوا حدودهم في أجواز الفضاء :

قال تعالى : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السَّماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاَّ بسلطانٍ ) – فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان – يرسل عليكما شواظٌ من نَّارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران ) [ الرحمن : 33-35 ] .

فمع قدراتهم وسرعة حركتهم لهم حدود لا يستطيعون أن يتعدوها ، وإلا فإنهم هالكون .

سابعاً : لا يستطيعون فتح باب أغلق وذكر اسم الله عليه :

روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان جنح الليل – أو أمسيتم – فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم ، وأغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، فإن الشيطان لا يفتح باباًَ مغلقاً ) (14) .

وفي لفظ لمسلم عن جابر : ( غطوا الإناء ، وأوكوا السقاء ، وأغلقوا الباب ، وأطفئوا السراج ، فإن الشيطان لا يحلّ سقاءً ، ولا يفتح باباً ، ولا يكشف إناء ) (15) .

=====================================
(1) انظر صحيح الجامع : 2/130 .
(2) تلبيس إبليس : 43 .
(3) انظر تفسير ابن كثير : 3/252 .
(4) صحيح سنن الترمذي : 3/206 . ورقمه : 2913 .
(5) صحيح سنن الترمذي : 3/206 . ورقمه : 2914 .
(6) رواه البخاري : 6/339 . ورقمه : 3294 .
(7) البداية والنهاية : 1/73 ، وفي رواية أخرى : ( لينضي شيطانه ) أي يهزله ويجعله نضواً أي مهزولاً لكثرة إذلاله له وجعله أسيراً تحت قهره وتصرفه .
(8) رواه مسلم : 4/2167 . ورقمه : 2814 .
(9) رواه مسلم : 1/385 . ورقمه : 542 .
(10) رواه البخاري : 6/547 . ورقمه : 3423 . ورواه مسلم : 1/384 . ورقمه : 541 .
(11) صحيح سنن الترمذي : 2/260 . ورقمه : 1859 .
(12) انظر أحاديث عدم قدرة الشيطان على التمثل بالرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري : 12/383 . وأرقامها : 6993-6997 . وفي صحيح مسلم : 4/1775 . وأرقامها : 2266-2268 .
(13) صحيح البخاري : 12/383 .
(14) صحيح البخاري : 6/350 ، 10/88 . ورقمها : 3304 ، 5623 . ورواه مسلم : 3/1595 . ورقمه : 2012 .
(15) صحيح مسلم : 3/1594 . ورقمه : 2012 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجن وعلم الغيب

 
شاع لدى كثير من الناس أن الجنّ يعلمون الغيب .
ومردة الجن يحاولون أن يؤكدوا هذا الفهم الخاطئ عند البشر ،
وقد أبان الله للناس كذب هذه الدعوى ،
عندما قبض روح نبيه سليمان ......

وكان قد سخر له الجن يعملون بين يديه بأمره ، وأبقى جسده منتصباً ، واستمر الجنّ يعملون ، وهم لا يدرون بأمر وفاته ، حتى أكلت دابة الأرض عصاه المتكئ عليها ، فسقط ، فتبين للناس كذبهم في دعواهم ، أنهم يعلمون الغيب : ( فلمَّا قضينا عليه الموت ما دَلَّهُمْ على موته إلاَّ دابَّة الأرض تأكل منسأته فلمَّا خرَّ تبيَّنت الجنُّ أن لَّو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) [ سبأ : 14 ] .

وقد سبق القول كيف أنهم كانوا يسترقون خبر السماء ، وكيف زيد في حراسة السماء بعد البعثة ، فقلما يستطيع الجن استراق السمع بعد ذلك .

العرّافون والكهان :

وبذلك يعلم عظم الخطأ الذي يقع فيه عوام الناس باعتقادهم أن بعض البشر كالعرافين والكهان يعلمون الغيب ، فتراهم يذهبون إليه يسألونهم عن أمور حدثت من سرقات وجنايات ، وأمور لم تحدث مما سيكون لهم ولأبنائهم ، ولقد خاب السائل والمسؤول ...

فالغيب علمه عند الله ، لا يظهر الله عليه إلا من شاء من رسله : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً – إلاَّ من ارتضى من رَّسولٍ فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً – ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عددا ) [ الجن : 28 ] .

والاعتقاد بأن فلاناً يعلم الغيب اعتقد آثم ضال ، يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تجعل علم الغيب لله وحده .

إما إذا تعدى الأمر إلى استفتاء أدعياء الغيب ، فإن الجريمة تصبح من العظم بمكان ، ففي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) (1) .

وتصديق هؤلاء كفر ، ففي السنن ومسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من أتى كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد برئ مما أنزل على محمد ) (2) .

قال شارح العقيدة الطحاوية : " والمنجم يدخل في اسم ( العراف ) عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه " ، ثم قال : فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسؤول ؟ " ومراده إذا كان السائل لا تقبل له صلاة أربعين يوماً ، وإذا كان الذي يصدق الكاهن والعراف يكفر بالمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون حكم الكاهن والعراف ؟

سؤال العرافين والكهنة على وجه الامتحان :

يرى ابن تيمية أن سؤال الكهنة ، بقصد امتحان حالهم ، واختبار باطنهم ، ليميز صدقهم من كذبهم ، جائز ، واستدل بحديث الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد ، فقال : ( ما ترى ؟ ) فقال : يأتيني صادق وكاذب ، قال : خلط الأمر عليك .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني قد خبأت لك خبيئاً ) ، قال : هو الدخ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اخسأ ، فلن تعدو قدرك ) (3) . فأنت ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل هذا المدّعي ، ليكشف أمره ، ويبين للناس حاله .

المنجمون :

وصناعة التنجيم التي مضمونها : الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية ، أو التمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية : صناعة محرمة بالكتاب والسنة ؛ بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين...

قال تعالى : ( ولا يفلح السَّاحر حيث أتى ) [ طه : 69 ] . وقال تعالى : ( ألم تر إلى الَّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطَّاغوت ) [ النساء : 51 ] . قال عمر بن الخطاب : الجبت السحر (4) .

تعليل صدق المنجمين والعرافين في بعض الأحيان :

قد يزعم قائل أن العرافين والكهنة والمنجمين يصدقون أحياناً ، والجواب : أن صدقهم في كثير من الأحيان يكون من باب التلبيس على الناس ، فإنهم يقولون للناس كلاماً عاماً يحتمل وجوهاً من التفسير ، فإذا حدث الأمر ، فإنه يفسره لهم تفسيراً يوافق ما قال .

وصدقهم في الأمور الجزئية إما أنه يرجع إلى الفراسة والتنبؤ ، وإما أن تكون هذه الكلمة الصادقة مما خطفه الجن من خبر السماء . ففي الصحيحين عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ؟ فقال : ( ليسوا بشيء ) . قالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا بالشيء فيكون حقاً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة ) (5) .

وإذا كانت القضية التي صدق فيها من الأمور التي حدثت كمعرفته بالسارق ، أو معرفته باسم الشخص الذي يقدم عليه لأول مرة وأسماء أبنائه وأسرته ، فهذا قد يكون بحيلة ما ، كالذي يضع شخصاً ليسأل الناس ، وتكون عنده وسيلة لاستماع أقوالهم قبل أن يمثلوا بين يديه ، أو يكون هذا من فعل الشياطين ، وعلم الشياطين بالأمور التي حدثت ووقعت ليس بالأمر المستغرب .

الكهنة رسل الشياطين :

يقول ابن القيم (6) : " الكهنة رسل الشيطان ؛ لأن المشركين يهرعون إليهم ، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ، ويصدقونهم ، ويتحاكمون إليهم ، ويرضون بحكمهم ، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل ، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ، ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم ، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل ...

فالكهنة رسل الشيطان حقيقة ، أرسلهم إلى حزبه من المشركين ، وشبههم بالرسل الصادقين ، حتى استجاب لهم حزبه ، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافاً أو كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ) (7) .

فإن الناس قسمان : أتباع الكهنة ، وأتباع الرسل ، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء ، بل يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر قربه من الكاهن ، ويُكَذّبُ الرسول بقدر تصديقه للكاهن .

أقول : ومن يدرس تواريخ الأمم يعلم أن الكهان والسحرة كانوا يقومون مقام الرسل ، ولكنهم رسل الشياطين ، فالسحرة والكهنة كانت لهم الكلمة المسموعة في أقوامهم ، يحلون ويحرّمون ، ويأخذون المال ، ويأمرون بأنواع من العبادة والطقوس ترضي الشياطين ، ويأمرون بقطيعة الأرحام ، وانتهاك الأعراض ، وقد بين العقاد شيئاً من ذلك في كتابه المسمى بـ ( إبليس ) .

واجب الأمة نحو هؤلاء :

ما يدعيه المنجمون ، والعرافون ، والسحرة ، ضلال كبير ومنكر لا يستهان به ، وعلى الذين أعطاهم الله دينه ، وعلمهم كتابه وسنة نبيه أن ينكروا هذا الضلال بالقول ، ويوضحوا هذا الباطل بالحجة والبرهان ...

وعلى الذين في أيديهم السلطة أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الذين يدّعون الغيب من العرافين والكهنة وضاربي الرمل والحصى ، والناظرين في اليد ( والفنجان ) ، وعليهم أن يمنعوا نشر خزعبلاتهم في الصحف والمجلات ، ويعاقبوا من يتظاهر ببضاعته وضلالاته في الطرقات ، وقد ذمّ الله بني إسرائيل لتركهم التناهي عن المنكر : ( كانوا لا يتناهون عن مُّنكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [ المائدة : 79 ] .

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق – رضي الله عنه – أنه قال : ( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ) . رواه ابن ماجة والترمذي وصححه (8) .
===================================
(1) رواه مسلم : 4/1751 . ورقمه : 2230 .
(2) مشكاة المصابيح : 2/525 . ورقمه : 4599 .
(3) رواه البخاري : 6/172 . ورقمه : 3055 . ورواه مسلم : 4/2244 . ورقمه : 2930 .
(4) شرح العقيدة الطحاوية : 568 . وراجع في علم النجوم ، أبجد العلوم لصديق حسن القنوجي : ص 542 .
(5) جامع الأصول لابن الأثير : 5/63 .
(6) إغاثة اللهفان : 1/271 .
(7) رواه بهذا اللفظ أحمد : 2/429 والطبراني في الأوسط : (1453) ورواه أبو داود : 4/225 رقم : (3904) ، والترمذي : 1/164 رقم : (135) ، وابن ماجة : 1/209 رقم : (639) ، والدارمي : 1/207 رقم (1136) بلفظ :( من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )
(8) مشكاة المصابيح : 2/643 . ورقمه : 5412