المعتزلة
المعتزلة فرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري (80 هـ - 131 هـ) في البصرة (أواخر العصر الأموي)، وقد ازدهرت في العصر العباسي.
اعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي.
يقال من أشهر المعتزلة الجاحظ، والخليفة العالم المأمون، والرازي، وابن الراوندي الذي هاجمهم بعد أن فارقهم بكتاباته التي فسرت أحيانًا على أنها إلحادية ورافضة للتدين بشكل عام. وإن كان هذا، وما زال، موضع سجال فكري إلى اليوم.
أعطى تأكيد المعتزلة على التوحيد، وعلى العدل الاجتماعي، الفرقة أهمية كبرى لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعية وكثر فيه القول بتشبيه وتجسيم الذات الإلهية.
يعتقد أن أول ظهور للمعتزلة كان في البصرة في العراق، ثم انتشرت أفكارهم في مختلف مناطق الدولة الإسلامية كخراسان وترمذ واليمن والجزيرة العربية والكوفة وارمينيا إضافة إلى بغداد.
انطوى تراث المعتزلة لقرون، ولم يعرف عنه سوى من كتابات آخرين، سواء من أشاروا إليهم عبورًا أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن، قبل بضعة عقود، أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار.
تأسيسها وتسميتها
اختلف المؤرخون في بواعث ظهور مذهب المعتزلة، واتجهت رؤية العلماء إلى وجود:
1. سبب ديني: فالاعتزال حدث بسبب اختلاف في بعض الأحكام الدينية كالحكم على مرتكب الكبيرة. ويستند العلماء المؤيدين لهذه النظرية إلى الرواية الشائعة في اعتزال واصل بن عطاء عن شيخه الحسن البصري في مجلسه العلمي في الحكم على مرتكب الكبيرة، وكان الحكم أنه مؤمن فاسق.
وتقول الرواية إن واصل بن عطاء لم ترقه هذه العبارة، وقال هو: في (منزلة بين منزلتين)، أي لا مؤمن ولا كافر.
وبسبب هذه الإجابة اعتزل مجلس الحسن البصري وكوّن لنفسه حلقة دراسية. وفق ما يفهم ويقال حين ذاك إن الحسن البصري أطلق عبارة (اعْتزِلنا واصل).
2. سبب سياسي: حيث يعتقد بعض العلماء أن الداعي لظهور هذه الفرقة ظرف حضاري أو تاريخي لأن الإسلام، عند نهاية القرن الأول، كان قد توسع ودخلت أمم عديدة وشعوب كثيرة فيه، ودخلت معها ثقافات مختلفة، ودخلت الفلسفة، ولم يعد المنهج النصي التقليدي النقلي يفي حاجات المسلمين العقلية في جدالهم.
والمنهج الذي يصلح لذلك هو المنهج الطبيعي العقلي، والذي سيصبح أهم المذاهب الكلامية من الناحية الخالصة، فهو أكثر المذاهب إغرقًا وتعلقًا بالمذهب العقلاني.
العقائد والأفكار
بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطورت فيما بعد، ولم تقف عند حدود مسألة واحدة، بل تجاوزتها لتشكل منظومة من العقائد والأفكار، التي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليًا من لم يقل بها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة التي هي:
1 - التوحيد:
ويعنون به إثبات وحدانيته الله ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله: لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة... الخ، أما الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله. قالوا: ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضيًا نفي الصفات. ونفصل قليلاً لأن لمبدأ التوحيد مفهوم خاص عند المعتزلة، فهو بالنسبة لهم يعني:
آ- التنزيه المطلق: بمعنى "ليس كمثله شيء"، لا تشبيه ولا تجسيم، وتنزيه الله عن أن يكون مثل الأجسام أو الموجودات الحسية، ونفي أي تشبيه بين المخلوقات والله. والآيات التي تفيد التشبيه لا يقبلها المعتزلة على ظاهرها بل يقومون بتأويلها مثل "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" - نخرج المعنى الظاهر لكلمة (وجه) ونقول إن المقصود بها الذات.
ب- التوحيد بين الذات والصفات: الله ذات ووجود، وهذا الوجود يتصف بصفات ذكرها الله في كتابه، ووصف الله بها نفسه: عالم، كبير، قدير، سميع، خالق، بصير. ويعتبر المعتزلة هذه الصفات مضافة للذات، مثلاً: الإنسان لا يولد عليمًا بل يصبح عليمًا.
المعتزلة يقولون إن هذه الصفات ليست زائدة عن الذات إنما هي عين ذات الإلهية (العلم، القدرة، الإرادة، الحياة، السمع، البصر، الكلام): سبع صفات للذات.
وصفة الذات هي الصفة التي لا يجوز أن أصف الله بها وبضدها، فلا يجوز أن أصف الله الجاهل × عالم، ولا بالعاجز × قادر... الخ. أما صفات الفعل فهي تلك التي يجوز أن يوصف الله بضدها مثل الرزاق، فأحيانًا يرزق وأحيانًا يمنع الرزق، والمعتزلة يقولون إن "الكلام صفة الفعل وليست صفات الذات".
يقول المعتزلة إن صفات الله الستة لا تنفصل عن الذات، وإنما هي عين الذات الإلهية. سميع بسمعه وسمعه هو عين ذاته، بصير ببصره وبصره هو عين ذاته وهكذا... لأنه إذا قلنا إن الصفات ليست عين الذات فمعنى ذلك أن هناك تعدد وتجزؤ في الذات الإلهية، وهذا لا يجوز في رأي المعتزلة لأنه، في رأيهم، شرك. لأنه عندي ذات قديمة وصفات هي عين الذات، ومعنى ذلك أننا نقع في الشرك ونقول قولاً أفظع من قول النصارى في الله. الخروج من هذا المأزق هو في التوحيد بين الذات والصفات، فصفة العلم هي الذات نفسها، وخصوم المعتزلة يسمونهم المعطلة أو أهل التعطيل، أي عطلوا أن يكون للصفات وجود متمايز. الشيعة والخوارج والإباضية أخذوا بهذا المبدأ، وهذا هو معنى التوحيد عند المعتزلة. ويترتب على هذا المذهب بعض المواقف العقيدية مثل نفي رؤية الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. "وجوه يومَئِذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة" - إلى ليست حرف جر بل تعني النعمة، ناظرة أي تنتظر تمشيًا مع مبدأ التنزيه، فإذا رؤي الله بالأبصار فهو جسم.
2- العدل:
ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة. وبناء على ذلك نفوا أمورًا وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقًا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، إن خيرًا وإن شرًا. قال أبو محمد بن حزم: "قالت المعتزلة بأسرها، حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه، إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل". وأوجبوا على الخالق، الله، فعل الأصلح لعباده.
قال الشهرستاني: "اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد.
وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف، وسموا هذا النمط عدلاً"، وقالوا أيضًا إن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسنًا، وما قبحه كان قبيحًا، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه. ونفصل قليلاً أيضًا...
العدل مبدأ هام في فكر المعتزلة، وهم يربطون بين صفة العدل والأفعال الإنسانية، ويرون أن الإنسان حرّ في أفعاله، وهم يقولون ذلك لكي ينقذوا التكليف الشرعي لأن الإنسان المسلم مكلف شرعيًا والإنسان مسؤول عن هذه الأفعال حتى يستقيم التكليف ويكون الثواب عدلاً والعقاب عدلاً.
خلافًا للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. ترى المعتزلة أن عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله، ويترتب على القول بالعدل الإلهي أن الله لا يفعل الشر، فأفعال الله كلها حسنة وخيرّة، الشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شرًا.
يقول المعتزلة إن الله يفعل ما هو الأصلح لعباده، ولا يمكن أن يفعل الشر لهم. ويتمثل المعتزلون الذات الإلهية خيرًا مطلقًا، ويقولون باللطف الإلهي أي أن الله يهدي الناس إلى ما فيه الخير لطفًا بهم. القول بالحسن والقبح الذاتيين أو العقليين، والمقصود بها أفعال الإنسان الحسنة وأفعال الإنسان القبيحة. مثلاً الصلاة فعل حسن، التصدق فعل حسن، إطعام المسكين فعل حسن...؛ الزنا فعل قبيح، الاعتداء... أفعال سيئة قبيحة.
وبالنسبة لتحديد ما إذا كان الفعل حسن أو قبيح هناك إتجاهان: الأول يقول (إن الشرع قد أخبرني ذلك)، أي ما يجعل الأفعال حسنة أو قبيحة هو الإخبار الشرعي، وهذا مبدأ التيار السلفي النقلي الذي يأخذ بظاهر النصوص؛ أما الاتجاه الآخر فهو التيار العقلي الذي يقول إن العقل هو المسؤول.
يترتب على مبدأ العدل أيضًا القول بخلق القرآن، فالقرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الله، فالله متكلم وكلم موسى تكليمًا، وصفة الكلام هي إحدى الصفات التي يعتبرها بعض المسلمين صفات ذات (صفة الذات هي صفة يوصف الله بها ولا يجوز أن يوصف بضدها مثل الحياة والإرادة)، ويعتقدون أن كلام الله مخلوق أو حادث، أي أنه وجد بعد لم يكن موجودًا، وتكلم الله به بعد لم يكن متكلمًا.
الخليفة المأمون فرض القول بخلق القرآن، وطلب من الجميع أن يقروا بذلك، واعتبر القول بقدم الذات الإلهية ضرب من الشرك المضاد للتوحيد؛ إلا أن أحمد بن حنبل تصدى لهذا القول فاستضعف وتعرض للسجن والتعذيب، ولذا فقد لقب بإمام أهل السنة.
3المنزلة بين المنزلتين:
وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافرًا، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرًا على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
أي أن حكم الفاسق في الدنيا هو أنه ليس بمؤمن ولا بكافر، وبالتالي يظل على هذا الحال؛ فإن تاب أصبح مؤمنًا وإن لم يتب حتى موته يخلد في النار.
ينسب إلى الرواقيين التمييز بين قيمة الخير وقيمة الشرّ، إذ يقولون إن هناك أشياء خيرة وأشياء شريرة وأشياء بين البينين.
وهذه هي فكرة المعتزلة بالقول بمنزلة بين منزلتين، إذ تأثروا بالرواقيين. وقد تشكل الاعتزال كمذهب في القرن الثاني. والسبب فيه أن رجلاً دخل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج؛ وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة؛ فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا. فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن اعتزل عنا واصل، فسمى هو وأصحابه معتزلة.
ووجه تقريره أنه قال إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سُميّ المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر مطلقًا أيضًا لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير. لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار.
4الوعد والوعيد:
المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدًا منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم. قال الشهرستاني: "واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وسموا هذا النمط وعدًا ووعيدًا".
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر، سواء أكانوا حكامًا أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات: "وأجمعت المعتزلة، إلا الأصم، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف. كيف قدروا على ذلك" فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك، وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.
هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها. لكن هناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد:
1- نفيهم رؤية الله عز وجل: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله لا يُرى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله، والله منزه عن الجهة والمكان. وتأولوا قول القرآن: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) أي منتظرة.
2- قولهم إن القرآن مخلوق: قالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.
3- نفيهم علو الله: وتأولوا الاستواء في قول القرآن: "الرحمن على العرش استوى" بالاستيلاء.
4- نفيهم شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته: قال الإمام الأشعري في المقالات: "واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر. فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله".
5- نفيهم كرامات الأولياء: قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي.
المعتزلة في العصر الحديث ظهرت عدة محاولات لإحياء فكر المعتزلة في مواجهة التردي الذي تعيشه الأمة الاسلامية. ولكن معظم هذه المحاولات كانت تعاني من التأثر بالفكر الغربي. وبالتالي بدت هذه المحاولات وكأنها تلحق الحضارة الإسلامية بالحضاره الغربية. ولكن جهود الشيخ أمين نايف ذياب (1931 - 2006) أدت إلى بعث الاعتزال كفكر سياسي شعبي نابع من حضارة الإسلام