الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الأول والآخر

الأول والآخر

 الحمد لله رب العالمين، مع الاسم الثالث والخمسين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو: الأول والآخر، الأول والآخر اسمان من أسماء الله الحُسنى، كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجاز بعض العلماء ذكرهما معاً الأول والآخر.
 وللعلماء في هذا الموضوع، رأي لطيف، هو أن من أسماء الله الحُسنى، ما لا يجوز إلا أن يُذكر الاسم وما يقابله معاً ينبغي أن تقول المعطي المانع، والرافع الخافض، والمُعز المذل، والنافع الضار، والقابض الباسط، لأن القبض للبسط، والضر للنفع، والإذلال للإعزاز، والأخذ للعطاء، يؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته:
(( يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لبلاء، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين.))
(رواه الديلمي عن ابن عمر)
 يضر لينفع، يمنع ليعطي، يخفض ليرفع، يذل ليعز.
 بعض العلماء أجاز أن يُذكر اسم الأول والآخر معاً، كالنافع والضار وجمع بينهما القشيري مضيفاً إليهما الظاهر والباطن، لنا أن نقول الأول والآخر والظاهر والباطن معاً، أربعة أسماء.
 وكما هي العادة دائماً نبدأ بالمعنى اللغوي الدقيق من كلمة الأول ؛ فالمعنى الأول للأول: هو الذي يترتب عليه غيره، شيء يُبنى على شيء ونتيجة تؤسس على مقدمة، الشيء الذي يترتب عليه غيره، هذا المعنى الجامع، التفاصيل: الأول المتقدم زمانه، طبعاً، شعبان ثم رمضان رمضان ثم شوال، محرم ثم ذو القعدة، الأول هو الذي يأتي أولاً زماناً يعني التقدم زماناً.
 المعنى الثاني ؛ التقدم رتبةً، فلان الأول على طلاب الصف، فلان الأول في التجارة، فلان الأول في الصناعة، الأول في العلم، هذا التقدم تقدم رتبي ومنه قوله تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾
(سورة الرحمن)
 لا يُعقل أن يُعلم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق، هذا التقديم تقديم رتبي وليس تقديماً زمنياً.
 المعنى الثالث، المتقدم مكاناً، أنت في الطريق إلى حلب، حمص قبل حماة، وحماة قبل حلب، فحمص أولاً وحماة ثانياً وحلب ثالثاً، إذاً هناك تقدم زمني وتقدم مكاني وتقدم رتبي.
 المعنى الرابع التقدم في الترتيب، وهذا يُستخدم في الصناعة ترتيب المحرك أولاً، ربطه بالعجلات ثانياً، ربطه بالكهرباء ثالثاً، إذاً هناك أولوية في الزمان، أولوية في المكان، أولوية في الترتيب، أولوية في التربية، هذه المعاني الأربع مستفادة من معنى الأول.
 أما إذا قلنا ؛ الله هو الأول فلهذا معنى آخر، معناه أن الله سبحانه وتعالى لم يسبقه في الوجود شيء، لكن لا ينبغي أن تقول: زماناً، لأن الزمن من خلق الله، لم يسبقه في الوجود شيء هذا هو الذي ينبغي أن نقوله في شرح معنى اسم الله الأول.
 هناك معنى آخر متعلّق بالله عز وجل ؛ الأول هو الذي لا يحتاج إلى غيره كل شيء يحتاج إلى غيره ليس أولاً، هذه المنضدة تحتاج إلى خشب، إذاً ليست هي الأول، الخشب يحتاج إلى أن ينبت، إذا ليس هو الأول، النبات يحتاج إلى بذر، ليس هو الأول، البذر يحتاج إلى نبات يخرج منه، النبات ليس هو الأول، فكل شيء يحتاج إلى غيره ليس أولاً.
 فالمعنى الثاني إذًا: هو الشيء الذي لا يحتاج إلى غيره، هذا معنى الأول بالنسبة لله عز وجل.
 المعنى الثالث: الشيء المستغني بنفسه في وجوده، لو أن شيئاً يفتقر في استمرار وجوده إلى شيء آخر ليس أولاً، المادة الأولية سبب استمراره، مادام هناك شيء يعين على استمرار الوجود فهذا الشيء ليس أولاً المادة الأولية هي الأول، فثلاث معانٍ مستفادة من اسم الله العظيم الأول هو أنه لم يسبق وجوده شيء، والثاني لا يحتاج إلى غيره، والثالث المستغني بنفسه، فهذه الثلاثة تشكّل معنى الأول.
 أعرابي التقى النبي عليه الصلاة والسلام، قال أين كان الله قبل الخلق ؟ فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام:
((كان الله ولم يكن معه شيء))
 كان هنا فعل ماض تام، كان الجو صاحياً، ناقص، كان الحديد فلزاً، ناقص، كان الجليد ماءً، ناقص، أما كان الله تام، إذاً هذه كان التامة الكاملة التي تحتاج إلى فاعل، وتكون بمعنى وجد، أما كان الناقصة لا تعني حدوث عمل.
 بالمناسبة، هذه الورقة، إذا مزقتها، هذا التمزيق حدوث عمل الفعل التام يدل على حدوث عمل، أما الفعل الناقص لا يدل على حدوث عمل يدل على زمن فقط، إذا قلت الجو صاح، هذا تركيب اسمي، إذا قلت كان الجو صاحياً، ماذا أضفت ؟ المضي فقط، كان الناقصة لا تفيد حدوث العمل، تفيد مضي الزمن فقط، الجو ممطر، كان الجو ممطراً البارحة، فكأن "كان" شدت هذا التركيب الاسمي إلى الماضي شداً، أما إذا دلت على حدوث عمل أصبحت كان التامة إعرابها فعل ماض تام، تحتاج إلى فاعل مرفوع، كان الله، وجد الله الله لفظ الجلالة نائب فاعل، طبعاً في أدلة كثيرة في كتاب الله.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾
(سورة الأنفال)
 اتق الله حيثما كنت، " حيثما وجدت " وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
 فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام:
((كان الله ولا شيء معه ))
 فسأله الأعرابي والآن ؟ فرد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:
((هو الآن على ما كان عليه ))
 والحقيقة، هذا الاسم العظيم ورد في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى:
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)﴾
(سورة الحديد)
 من معاني هذا الاسم مهما أوغلت في النهاية تصل إلى الله، الله وراء كل شيء، سبب كل مسبب، هو الأول والآخر، أحياناً يقع حدث ما سببه ؟ سبب آخر مادي، فما سبب هذا السبب ؟ سبب آخر مادي، من مسبب الأسباب ؟ الله وهو الأول، إذا تحركت نحو الوراء بسلسلة يجب قطعاً أن تنتهي إلى الله، هو الأول.
 إنسان حرك يديه، كيف حركها ؟ لأنه حي، من أعطاه الحياة ؟ الله جل جلاله، إذاً هو الأول.
 حصل زلزال، من أحدث هذا الزلزال ؟ هذا الزلزال نتيجة اضطراب القشرة الأرضية، من جعلها تضطرب ؟ الله هو الأول. لذلك قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)﴾
(سورة الفتح)
 بالمناسبة هذا المعنى له تطبيق رائع، الإنسان أحياناً، يُصاب بمصيبة ؛ فمن ضعف توحيده، أو لضيق أفقه، يصب جام غضبه على من جاءته هذه المصيبة على يديه، لو تعقّل، لو كان توحيده أقوى لرأى يد الله هي التي عملت في الخفاء، لرأى يد الله فوق أيديهم.
 لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)﴾
(سورة لقمان)
 أن تصبر على ما أصابك، فإن ذلك من عزم الأمور، هناك آية أخرى:
﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ﴾
(سورة الشورى)
 هذه اللام هي لام المزحلقة، وهي لام التوكيد، فهنا في الآية توكيد، معنى
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ﴾
 يعني قضاء وقدر جاء على يد إنسان، الإنسان أحياناً ينقم على هذا الإنسان الذي أجرى الله على يديه هذه المصيبة.
 يعني لو فرضنا لا سمح الله ولا قدر، طفل وقع عن الشرفة، نزل ميتاً، الأب يتألم أشد الألم، وقد يتفطر قلبه، لكن يحقد على من ؟ يقول هذا قضاء وقدر، أما لو أن سائقاً دهس طفلاً، الأب في ساعة غفلة، في ساعة غضب شديد ولنقص في توحيده يصب كل نقمته على هذا السائق، إذا عرف أن الله هو الأول في كل حادث، هو المسبب، هو مسبب الأسباب، طبعاً يأخذ حقه لكن لا يحقد، لأن الحقد من لوازم الشرك.
 هناك رجل يملك محلاً تجارياً، اختلف مع أحد موظفي المحل، هذا الموظف يعرف الدخائل والمخارج، فأبلغ بعض الجهات عن بضاعة غير نظامية، فضبطت المستودعات، وكلف بمبلغ كبير جداً، غرامة لهذه المخالفة الجمركية، فصاحب هذا المحل، بساعة من ساعات الغضب، أخرج مسدساً وأطلق النار على هذا الموظف فأرداه قتيلاً فأودع في السجن ثلاثين عاماً، لو كان موحداً لما رأى هذه المصيبة في هذا الشخص، قد رأى يد الله فوق يديه، وأن الله هو الأول، هو مُسبب الأسباب، ولعلَّ الله عز وجل يعوضه عن خسارته، ولعل الخسارة وقعَت لذنب اقترفه.
 الخلاصة أنّك إذا آمنت أن الله بيده كل شيء، هو الأول، لا تحقد على أحد، كما لو أن إنساناً تلقى ضربةً بعصا، فهل يحقد على العصا ؟ أم على الذي ضربه ؟ العصا لا تقدم ولا تؤخر، وينبغي أن تعلم أن الناس جميعاً، حتى الأقوياء، وحتى الأشرار إنما هم عصي بيد الله عز وجل، ألم يقل الله عز وجل:
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
(سورة هود)
 وهذه الآية لها معنى دقيق جداً، يعني إذا كانت مجموعة وحوش وحوش كاسرة مربوطة بأزِمّةٍ بيد إنسان عظيم رحيم عادل منصف حكيم فأنت ينبغي أن تخاف من هذه الوحوش أم من الذي يملك ناصيتها ؟
 المشكلة كلها في هذا المثل، فالكافر المشرك ضعيف الإيمان يخاف من الوحوش، والمؤمن يخاف من الذي يملك أزِمَّتها، فإذا اصطلح معه أبعدها عنه، أما إذا عصاه، أرخى لها أزمتها فوصلت إليه، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
 هذه الآية في سورة الحديد:
﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
( سورة الحديد رقم 3 )
 وقد يمكن أن نرد هذه الآية إلى المعنى الأول:
﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)﴾
(سورة الواقعة)
 يعني لم يسبقنا في الوجود أحد، وما نحن بمسبوقين، كان الله ولم يكن معه شيء، وسيدنا الإمام علي كرم الله وجهه، مرةً سئل: "متى كان الله ؟ فأجاب إجابةً رائعة: ومتى لم يكن ".
 والعلماء يقولون: " لا ينبغي أن تسأل أين الله، لأن الله خالق المكان ولا متى كان الله لأنه هو خالق الزمان، هو خالق المكان والزمان والمكان والزمان من خلقه ".
 الأول بكل ما سواه، المتقدم على كل ما عداه، كل ما سوى الله يأتي بعد الله، من دون الله، هو الأول، والمتقدم على كل ما عداه هذه الأولوية ليست بالمكان ولا بالزمان، ولا بأي شيء في حدود العقل أو العلم.
 يقول بعض العلماء: " الله سبحانه ظاهر باطن في كونه أولاً، هو الأول أظهر من كل ظاهر، لأن العقول تشهد أن المحدثات لها موجد متقدم عليها وهو سابق الوجود".
 فكونه تعالى أولاً واضح جداً من هذه الجهة، أنّ كل شيء حدث، كل شيء محدَث له محدِث كل شيء موجود له موجد، فمن بديهيات العقل، أن الموجد قبل الموجود، وأن المحدث قبل الحادث وأن الخالق قبل الخلق، وأن المدبر قبل المدَبر وأن الرازق قبل الرزق.
 وهو الأول أبطن من كل باطن، لأنك إذا توغلت في الشيء وتوغلت فيه وتوغلت فيه إلخ...، تصل إلى الله، هو الأول أظهر من كل شي وهو الأول أبطن من أي شيء.
 قال: كل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود بعقلك وعلمك فيكون متناهياً فمثلاً ؛ نجمة تبعد عنا أربع سنوات ضوئية، مسافة بعيدة جداً نحتاج لقطعها في مركبة أرضية إلى خمسين مليون عام، هناك نجم أبعد فنجد نجم القطب يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية، هناك نجم أبعد بعده أربع وعشرون ألف مليون سنة ضوئية، يا ترى هذه المجرة هي حدود الكون ؟ لا.. والشيء اللطيف أن هذه المجرة التي اكتشفت حديثاً، والتي تبعد عنا أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، كانت في هذا المكان الذي وصل إلينا منه ضوؤها قبل أربع وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، أين هي الآن ؟ لا يعلم إلا الله.
 يعني كل شيء نرصده بالمراصد فالمكان غير حقيقي، مثلا مجرة كانت في مكان، وأطلقت شعاعاً، هذا الشعاع سار بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر، وصل إلينا بعد أربع وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، هذا النجم أين صار الآن ؟ هل تصدقون أن بعض المجرات سرعتها تقترب من سرعة الضوء، سرعتها مائتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية، الضوء سرعته ثلاثمئة ألف، فإذا كان هذا النجم تحرك بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر في الثانية، وكان بهذا المكان قبل أربع وعشرين ألف مليون سنة، فأين هو الآن ؟ أين حدود الكون ؟ مهما تخيلت الكون واتساعه، فهو عقلاً محدود، لماذا هو محدود لأنه من دون الله، حادث، والحادث متناه، أما الله عز وجل غير متناه.
 هناك مشكلة هي اجتماعية ونفسية ودينية في آن واحد، الإنسان يشعر بما يسمى سعادة، أو يتوهم السعادة ما دام شاباً لأنه يتحرك نحو المجاهيل، يريد شهادة عليا، أخذ شهادة عليا، أحاط بعلومها واستوعبها ثمّ سئِم منها، بحث عن زوجة، تزوج، أنجب أولاداً، اشترى بيتاً، اشترى مركبة، دخله، أكل، تنزه فعل، ثم شعر بالملل، لماذا ؟ لأن النفس فطرها الله فطرةً عالية، فطرها على أن تسعى للانهائي، فإذا قنعت بالنهائي سئمت.
 تجد حقيقةً أن الإنسان بعد الأربعين، يغلب عليه السأم أكل أكلات طيبة حتى شبع، تنزه، وساح بالعالم، فلم يعد لديه شيء جديد، كله مكرر، صباحاً جلست للطعام ففوجئت بطعام لم تره من قبل وبطعام ما عرفته سابقاً، وفي اليوم التالي كأس شاي، قطعة جبن، وبيض، وفي آخر فول ومن بعده حمص، وبعد ؟ فما هو الجديد في الطعام ؟ لم يعُد من جديد فهذه الخضر الموجودة، والطبخ، والفاكهة، والسرير سرير، والنوم نوم، والأكل أكل يعني حياة رتيبة تنتهي إلى سأمٍ فهذه النفس البشرية، بالأساس مصممة على أن تتجه إلى المطلق، فإذا قنعت بالمقيد فلن ترضى فهي أكبر من كل قيد لذلك تشعر بالسأم.
 مثل بسيط: إنسان ذو طاقات كبيرة جداً، ضعه في مكان بلا عمل يتضجر ويتمزّق، طاقته كبيرة والعمل محدود، أما لما يلتجئ الإنسان إلى الله، يتبدّد السأم لأن الله مطلقٌ، لا نهائي، لذلك أنا أقول وأنا أصر على ما أقول، المؤمن لا يشيخ إطلاقاً، شاب دائماً، ما هو الشباب ؟ الشباب أن تكون أهدافك أكبر من حياتك، أن تكون أهدافك نبيلة تضيق بها حياتك، فأنت في شباب دائم، أما إذا كانت أهدافك كلها مادية، الأشياء المادية محدودة، أنت أكبر من المادة.
 فلذلك منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال. لذلك إذا أردت ألا تشيخ وألا تهرم وأن تكون في شباب دائم فاتجه إلى الله، واجعل الله عز وجل مقصودك، ورضاه مطلوبك، اجعل هدفك الآخرة فأنت في شباب دائم ومتجدد.
 حتى الناجحون في حياتهم حتى الأعلام المتألقون، في الصناعة في التجارة في العلوم في مراكز القوى أي إنسان متألق ما دام حيا فأهدافه المادية أصغر من طاقته الكبرى، فالإنسان الوحيد الذي يسعد طوال حياته هو إنسان اتجه إلى الله الله لا نهائي.
قال بعض العلماء: " الأول في وصفه تعالى بمعنى القديم الأزلي لا ابتداء له " وقيل: " الأول بلا ابتداء الموجود بذاته قبل وجود مخلوقاته وكان الأول لأنه كان موجوداً ولا شيء معه"، يعني مهما أوغلت في القدم، مثلاً نحن نعيش في القرن العشرين، توغل في القرن التاسع عشر، الثامن عشر، السابع عشر، السادس عشر، الخامس عشر، الرابع عشر القرن السابع الثالث الثاني الأول ما قبل التاريخ إلى نشوء العالم، أين تصل ؟ إلى الله هو الأول، هو الذي أنشأ العالم، كان الله ولم يكن معه شيء.
 تحرك نحو المستقبل، القرن الواحد والعشرين، عام ألفين و عام ثلاثة آلاف، عام خمسين ألف، فكان كما قال النبي:
((قَالَ أَبُو حَازِمٍ سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ))
(صحيح البخاري)
 لو انتهت الحياة الدنيا، ماذا بعد الحياة الدنيا ؟ الله، هو الأول والآخر، لو تحركت نحو الماضي الله هو الأول نحو المستقبل الله هو الآخر.
 قال أما الآخر فهو الباقي سبحانه، معنى الآخر أي الباقي بعد فناء خلقه، كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
 الإنسان العاقل يربط مصيره بمصير الأزلي الأبدي، الباقي الآخر أما لو ربط مصيره بأي شيء آخر هذا الشيء الآخر سيفنى.
 قال العلماء: الآخر هو الباقي بعد فناء خلقه، يعني الإنسان يعيش ويتعلم يكسب المال، يسكن ويأكل ويتحرك ويسافر ووو... ثم تُكتب نعوته، ثم يُوضع في القبر وهو صندوق العمل.
 قال بعضهم: الآخر الدائم بلا نهاية، عندنا قلق عميق، فالإنسان قد تكون حياته منتظمة، حقق نجاحات في حياته، هناك موت، هناك نهاية لهذا النجاح، لكن كل عصر له تجار وصناع وموظفين وأقوياء وأغنياء وأذكياء عاشوا ترفهوا أكلوا شربوا تمتعوا ثم طواهم الردى.
 قف أمام سوق الحميدية، وعُدْ بذاكرتك إلى المحلات التي على الصفين قبل ستين عاماً فكل أصحاب هذه المحلات لم يكونوا في هذه المحلات قبل ستّين سنة، وبعد ستين عاماً في الأعم الأغلب هناك طقم آخر من الناس في هذه المحلات، البيوت المتنزهات المدن الساحلية، كان فيها الرومان، قبلهم الآشوريون الآراميون، بعدهم العرب المسلمون، جاء الصليبيون، جاء المسلمون ما لانهاية، الله هو الآخر.
 قال العلماء: من أدب المؤمن مع هذا الاسم الآخر، أن يُكثر من ذكر هذا الاسم حتى يتجلى لقلبه نور الظاهر، وأن يفر من دار الفناء إلى دار البقاء.
 وقف أحد الشعر أمام إيوان كسرى، وله قصيدة في وصف هذا الإيواء، فأين مصير هذا الإنسان ؟ فاعلم إذًا:
لكل شيء إذا ما تم نقصان  فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول  من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد  ولا يدوم على حال لها شان
***
 ورد في بعض الأدعية: إلهي أنت الآخر لك البقاء، وأنت الدائم والجموع هباء، فاجعل لنا قسطاً من نور اسمك الآخر، فيحيي به الظواهر والسرائر فلا نشهد إلا الباقي بالباقي، ولا نصل إلا إلى مقام العالي الراقي.
الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، له في اسم الأول والآخر، تعليقات لطيفة جداً.
 تقول فلان أول من فلان، دائماً الأول فيه تفضيل، فلان أول بالنسبة إلى إنسان آخر، هذا المعدن أول رتبةً، الذهب قبل الحديد من حيث القيمة، دائماً أول فيه تقدما وعلوًّا ومن كلمة أول له فضيلة، كان أولاً عليه، يعني سابقًا له.
 يقول الإمام الغزالي: " اعلم أن الأول يكون أولاً بالإضافة إلى شيء والآخر يكون آخراً بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولاً وآخراً جميعاً ".
 ليس من المعقول أن تكون هذه اليد قبل الكأس، هي يد واحدة، وتكون بعدها أيضًا فهذا شيء خلاف المنطق، شيء مضاف إلى شيء، وهذا الشيء نفسه مضاف إلى شيء آخر، إلى الشيء نفسه، الأول مضاف أول، والثاني مضاف آخر، هناك تناقض عقلي، حل هذا الإشكال بالشكل التالي ؛ قال هما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولاً وآخراً، يعني هذا المسجد هناك في الجهة الشرقية شجرة، هي قبله، هي نفسها أيمكن أن تكون بعده ؟ متسحيل هذا يتناقض مع مبدأ الهوية بالمنطق ! شجرة واحدة أول وآخر لا يصح.
 فما دام الأول يجب أن يضاف إلى شيء، والآخر يجب أن يضاف إلى شي فينبغي أن يكون هذا الشيء شيئين، الأول بالنسبة لكذا وآخر بالنسبة لذلك.
 ممكن أن نقول هذا الكأس قبل الكتاب وهذا الشريط بعد الكتاب، أما هذا الكأس قبل الكتاب وقبل الشريط ممكن، فإذا إختلف المضاف إليه ممكن أن نجمع بين الأول والآخر، الكأس بعد الشريط وقبل الكتاب واحد، أما شيء واحد مضاف مرةً إضافة أولوية ومرة أخروية لمضاف إليه واحد هذا الشيء يرفضه العقل.
 قالوا: إذا نظرت إلى تركيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المرتبة فالله تعالى بالإضافة إليها أول، إذا نظرت إلى الموجودات الله تعالى أول الموجودات، إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه، فالله أوجدها، فهو أول وأما هو فموجود لذاته، وما استفاد الوجود من غيره الله عز وجل وجوده ذاتي أما وجود الكون كله يستفاد من وجود الله عز وجل، فالوجود ليس ذاتياً، وجود معلول بالموجب أما الله عز وجل وجوده ذاتي، ومهما نظرت إلى تركيب السلوك.
 فهناك أحداث ومسالك ولاحظت مراتب منازل السائرين، فهو آخر في نهاية المطاف تجد الله أمامك، إذا أضفنا إلى الموجودات فهو الأول أما إذا أضفنا إلى الحركة فهو الآخر، نهاية المطاف، نهاية السعي، نهاية الحياة، نهاية كل عمل الله جل جلاله.
 إذ هو آخر ما يرتقي إليه العارفون، وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته، لذلك قالوا نهاية العلم التوحيد، مهما تعلمت مهما درست، نهاية النهاية التوحيد، وأعلى مرتبة علمية أن تعرف الله فهو آخر بالإضافة إلى السلوك، بالإضافة إلى الموجودات فهو أول منه المبدأ أولاً وإليه المرجع والمصير آخراً.
 هذا المعنى له علاقة بحياتنا، والإنسان فيهما، سافر وتاجر وجمع مالاً، أسس أعمالاً، ونجح، وتألق مصيره إلى الله:
﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)﴾
(سورة الغاشية)
 إذهب أين شئت:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) ﴾
(سورة البقرة)
 هو الآخر، يجوز أن تركن لإنسان، تركن لجهة، تركن لجماعة تركن لمالك تركن لقوتك، في النهاية أنت مع الله، مصيرك إليه.
 الإمام القشيري يقول: " الأول في وصفه القديم الأزلي، الذي لا ابتداء له، والآخر في وصفه بمعنى لا انتهاء له، ولا انقضاء لوجوده هو الأول بإحسانه، والآخر بغفرانه، الأول بالهداية، والآخر بالرعاية ".
 الإمام الرازي يقول: " الأول والآخر ؛ فذكر عدة عبارات منها: الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، الأول لعرفان القلوب، والآخر لستر العيوب، الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، الأول قبل كل شيء بالقدم والأزلية، والآخر بعد كل شيء بالأبدية والسرمدية، الأول مبدي كل أول، والآخر مؤخر كل آخر، الأول بالوجود والقدم، والآخر للتوجيه عن الفناء والعدم ".
 يعني أينما ذهبت أوغلت في القدم فهو الأول، وأينما سعيت وتحركت وطرت وغصت وسافرت وتخطيت فهو الآخر، الإنسان أين ومتى مات فمصيره إلى الله.
 الأول بالخلق، والآخر للرزق، الأول بلا مطلع، والآخر بلا مقطع الأول هو الذي ابتدأ بالإحسان، والآخر هو الذي تفضل بجميل الإحسان الأول بالإسعاد الآخر بالإمداد، هذه كلها معان فرعية تستفاد من الأول والآخر.
 أما أدب المؤمن مع الأول، أن يكون أول الناس سبقاً بالخير، كن أول الناس بمعرفة الله، كن أولهم بطاعته، كن أولهم بخدمة عباده وآخرهم تعلقاً بهم.
 وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذه الكلمات:
(( يا كائن قبل أن يكون شيء، المكون لكل شيء، والكائن بعد ما لا يكون شيء أسألك بلحظة من لحظاتك، لحظاتك الحافظات الغافرات الراجيات المنجيات ))
 لحظة من لحظات الله الحافظات الغافرات الراجيات والمنجيات، الإنسان يكون في مجتمعه ملء السمع والبصر ثم بلحظة واحدة يصبح خبراً.
 أيها الإخوة القراء الكرام، عود على بدء، ينبغي أن نذكر بعض أسماء الله الحُسنى مثنى مثنى، الأول والآخر، والظاهر والباطن، والمعز والمذل، والمعطي والمانع، والرافع والخافض، والنافع والضار والقابض والباسط، لأن الاسم السلبي، هو من أجل الإيجابي.
 أحياناً الله عز وجل يفقر ليغني، يُذِلُّ ليتوب المرء من ذنوبه ثم يعزه أعلى أنواع العز، يفقره ليغنيه، يحجبه ليقربه، أحياناً يهينه ليعلي مقامه الإنسان المؤمن صابر على قضاء الله وقدره، وهو يعتقد اعتقاداً جازماً أن كل شيء في الحقيقة خير، لذلك قال تعالى:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)﴾
(سورة الأنعام)
 دققوا في كلمتي، إن يمسسك وإن يردْك، ما الفرق بينهما.
﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾
 لماذا جاء مع الخير الإرادة، ومع الشر الإمساس،، لأن الله عز وجل لا يريد إلا الخير، فإذا أنزل ضراً بإنسان فهذا الضر ليس مراده ولكنه لا بد منه أحياناً الابن غال جداً على والده، لكن في بعض الحالات النادرة يجد أنه لابد من تأديب هذا الغلام فيضربه وربما يتألم الأب أشد من تألم الابن بالضرب، لكن لا بد منه، فالضرب ليس مقصوداً، المقصود التربية، الضر ليس مراداً، لكنه لا بد منه.
 مركبة صنعت فمن أجل ماذا صنعت ؟ من أجل إن تسير، أليس فيها مكابح ؟ المكابح تتناقض مع الهدف من صناعتها، صنعت لتسير وفيها مكابح ! لكن المكابح ضرورية لسلامتها، الإنسان خلق ليسعد، لكن المصائب والآلام كالمكابح تماماً ضرورية لسلامته قال تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
(سورة الشورى)
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) ﴾
(سورة السجدة)
 لو أدرك الإنسان أن كل شيء يبدو له شراً هو خير مبطن وأن وراءه هدف كبير لذابت نفسه محبةً لله عز وجل، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءت الأمور على ما يريد، قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا جاءت على خلاف ما يريد قال الحمد لله على كل حال، ودائماً حسن الظن بالله، ولنحسن الظن بالله ثمن الجنة