الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الغفار

الغفار

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة المؤمنون: مع الدرس التاسع من دروس أسماء الله الحسنى والاسم اليوم اسم الغفور، هذا الاسم أيها الأخوة ورد في القرآن الكريم في صيغ ثلاث: الصيغة الأولى ورد هذا الاسم على صيغة غافر قال تعالى:
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾
(سورة غافر)
 وورد أيضا على صيغة ثانية وهي الغفور، غافر وغفور قال تعالى:
﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)﴾
(سورة الكهف)
 وقال تعالى:
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ﴾
(سورة البروج)
 وقال تعالى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
(سورة الحجر)
 وقال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)﴾
(سورة الزمر)
 إلى آخر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم على صيغة غفور.
 الصيغة الثالثة وردت غفار على وزن فعال قال تعالى:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) ﴾
(سورة طه)
 وقال تعالى:
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12)﴾
(سورة نوح)
 ألا هو العزيز الغفار، غافر وغفور وغفار وردت هذه الأسماء كلها في القرآن الكريم، هذه الأسماء كلها مشتقة من مصدر واحد وهو المغفرة.
 قال بعض العلماء: " الإنسان إذا عصى الله عز وجل وصف في القرآن بأنه ظالم ووصف في القرآن بأنه ظلوم وبأنه ظلام " فقال تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾
(سورة فاطر)
 وقال تعالى:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)﴾
(سورة الأحزاب)
 وقال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾
(سورة الزمر)
 فالمسرف ظلاَّم على صيغة المبالغة، فإذا كان العبد ظالما فالله غافر وإذا كان ظلوما فالله غفور وإذا كان ظلاما فالله سبحانه وتعالى غفار، بأية صفة أتى بها العبد المعصية فهناك اسم لله عز وجل يقابل هذه المعصية.
 النقطة الدقيقة في هذا الاسم أن صفات الإنسان متناهية، معنى متناهية: الإنسان فعل هذا الذنب ذنب له حجم، فعل هذه المعصية أخذ هذا المبلغ ارتكب هذه المخالفة مهما تكن المعاصي والذنوب فإنها متناهية تنتهي عند حد لكن مغفرة الله عز وجل ليست متناهية لا حدود لها وغير المتناهي يغلب المتناهي، إذا لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الكفور لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الجهول لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الجحود.
 إذا كان ذنبك متناهياً ومغفرة الله عز وجل ليست متناهية فمن الغباء والحمق والجهل والجحود وقلة العلم أن تيأس من رحمة الله، لذلك اليائس كافر اليائس جاهل اليائس جاحد.
 شيء آخر في هذا الاسم أن الآيات التي وردت في هذا الإسم وردت مرة على صيغة الماضي قال تعالى:
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (23) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (24)﴾
(سورة ص)
 ومرت أيضا على صيغة الفعل المضارع قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48)﴾
(سورة النسا ء)
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) ﴾
(سورة آل عمران)
 ووردت بصيغة الأمر، قال تعالى:
﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) ﴾
(سورة آل عمران)
 ووردت بصيغة المصدر قال تعالى:
﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾
(سورة البقرة)
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6)﴾
(سورة الرعد)
 أي يغفر لك ما مضى ويغفر لك الآن ويغفر لك في المستقبل وهو ذو مغفرة، بأي زمن شئت هو غفار، لأي ذنب فعلت هو غفار، إن كان الإنسان ظالما فالله غافر وإن كان ظلوما فالله غفور وإن كان ظلاما فالله عز وجل غفار وإن فعل الذنب في الماضي غفر الله له وإن فعله الآن يغفر الله له وما سيفعل من ذنب في المستقبل فإن الله عز وجل يغفر بعد الدعاء، بأي شكل بأي زمن فإن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم.
 أسوق هذا الكلام ليعلم الأخ المؤمن أنه لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا اليائس إلا الجاهل إلا الجاحد إلا الكافر.
ولكن أيها الأخوة الأكارم: إذا توهم أحدكم أن غافراً اسم فاعل أما غفور صيغة مبالغة لاسم الفاعل أما غفار صيغة مبالغة المبالغة لاسم الفاعل، (الحقيقة التي أتمنى أن تكون بين أيديكم هو أن أسماء الله عز وجل لا تتفاوت أبدا )
إذاً كيف جاء هذا الاسم على هذه الصيغ ؟ هنا السؤال.
 إذا الإنسان تناول الطعام يقال له في اللغة ؟ آكل، إذا جلس إلى الطعام فأكل خمسة أرغفة يقال له أكول على وزن فعول(وباللغة العامية أكِّيل )يقال له أكول إذا تناول كمية كبيرة، إذا تناول وجبة خفيفة ولكن أكل في اليوم خمس مرات يقال له: أكول، إذا صيغة المبالغة ماذا تفيد؟ تفيد النوع وتفيد العدد، الحقيقة الأولى أن أسماء الله عز وجل لا تتفاوت، كلها في مستوى واحد لأن الله عز وجل مطلق.
 الإنسان كان في مستوى وارتقى إلى مستوى أعلى ثم ارتقى إلى مستوى أعلى، كان ظالماً فعل ظلماً أشد أصبح ظلوماً فعل ظلما أشد صار ظلاماً، أما هذا المعنى لا يليق بحضرة الله عز وجل أبدا. لو أن فلاناً ارتكب سيئة غفرها الله له فهو غافر، فلان آخر غفر الله له فلان ثالث غفر الله له فلان عاشر غفر الله له العباد كلهم لو أذنبوا غفر الله لهم، جاءت صيغة غفار لا من حيث النوع ولكن من حيث العدد، لو فرضنا قلت فلان ليس أكولا إذا نفيت عنه أنه أكول هل نفيت عنه أنه يأكل ؟ لا. إذا قلت:
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
 قد يقول قائل معلوماته محدودة وأفقه ضيق الله ينفي عن نفسه مبالغة الظلم ولا ينفي عن نفسه الظلم، فإذا قلت عن إنسان ليس أكولاً ليس معنى هذا أنه ليس آكلاً، قال: هذا لا يليق بحضرة الله عز وجل لأن صيغة المبالغة بأسماء الله لا تعني الكم بل تعني العدد، فكل عباده لو أنهم أذنبوا فالله عز وجل غفور، فصيغة فعول تعني المبالغة لافي المعنى لكن في العدد والدليل قوله تعالى
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
(سورة فصلت)
 الظلام في حق الله تعني أنه لا يظلم جميع عباده ينعمون بعدالته.
 شيء آخر: المغفرة في اشتقاقها اللغوي تعني الستر، فمثلا الغفر وبر الثوب، وبر الثوب يستر اللحمة والسدى ومغفر الرأس الشعر يستر جلد الرأس، فباللغة معنى الستر ولكن ربنا عز وجل كما يتضح لكم ذكر بعض المعاصي فقال مثلاً عن سيدنا موسى:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) ﴾
(سورة القصص)
 سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) ﴾
(سورة الفتح)
 فلا يستقيم معنى المغفرة بمعنى الستر لكن يستقيم بمعنى الصفح والعفو والستر والصفح يلغيان الشيء بمعنى واحد فالمعنى الأول المغفرة الصفح العفو أي عدم إيقاع العقوبة، أي الله عز وجل غفور يمكن أن يعفو عنك فلا يوقع عليك العقاب.
 المشكلة الأساسية هو أننا إذا قرأنا القرآن نقرأ بعضه وننسى بعضه الآخر، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾
(سورة الزمر)
 لا ينبغي أن تقف عند هذا المكان في الآية قال تعالى:
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)﴾
(سورة الزمر)
 أي غفور لمن أقبل، غفور لمن تاب، غفور لمن رجع، غفور لمن أناب، غفور لمن أصلح، غفور لمن استغفر، أما أن يقيم الإنسان على معصية وينوي أن يبقى عليها ويقول الله غفور رحيم هذا من السذاجة والجهل وعدم الفهم:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
(سورة الحجر)
 أي إما أن تأتيه طائعا وإما أن يدفعك إلى أن تأتيه، ربنا عز وجل قال في بعض الآيات أن الله تاب عليهم ليتوبوا ويوجد آيات تابوا فتاب الله عليهم، ما معنى توبة الرب إذا سبقت توبة العبد ؟ وما معنى توبة الرب إذا تأخرت عن توبة العبد ؟
 قال بعض العلماء: " إذا سبقت توبة الرب توبة العبد أي أن الله عز وجل ساق له من الشدائد والمحن والمصائب ما دفعه إلى التوبة فما أكثر التائبين على أثر مصيبة نزلت بهم "، الله عز وجل تاب على العبد قبل أن يتوب أي ساق إليه الشدائد والمحن والبلايا بحيث يحمله على التوبة وإذا قال الله عز وجل:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾
(سورة المدثر)
 حيثما جاءت كلمة ذرني يعني يا محمد إن لم يستجب فلان لك دعه لي أنا أسوق له من الشدائد ما أحمله على التوبة وهذه آيات دقيقة جدا فالله عز وجل من رحمته بنا يسوق لك إنساناً لطيفاً يقدم لك نصيحة هادئة لطيفة بينك وبينه يدعمها بالآيات والأحاديث والقصص فأنت إما أن تستجيب وإما أن لا تستجيب، فإن لم تستجب فالله سبحانه وتعالى عنده من الوسائل والأساليب والأدوية والطرائق والمضايقات والشدائد ما يدفعك إلى بابه دفعا، فأيهما أرقى لك أن تأتيه طائعا أو أن تأتيه بعد العصى، هذا ما فسره النبي عليه الصلاة السلام:
(( عجب ربكم من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل، كل بني آدم يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ))
 فأنت أخوف ما يجب أن تخاف منه أن تدعى إلى الله عز وجل دعوة هادئة لطيفة فيها ستر بينك وبين أخ كريم ينصحك بغض البصر، بتحرير الدخل، بترك الظلم، بترك العدوان، فإن لم تستجب فالله سبحانه وتعالى كفيل أن يسوق للإنسان من الشدائد ما يحمله على التوبة، هذا معنى التوبة إذا سبقت توبة الرب توبة العبد.
﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
 أما إذا جاءت توبة الرب بعد توبة العبد فهي قبول التوبة " تابوا فتاب الله عليهم " أي قَبِلَ توبتهم.
 إذا الإنسان إذا قرأ عن المغفرة قال:
((عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.......... يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ))
(صحيح مسلم)
 هذا معنى هذا الحديث القدسي أن الإنسان إذا عاد إلى الله طواعية ضَمِنَ حفظ الله له وتأييده وإكرامه فإذا أبى ولم يستجب عندئذ سيأتيه العذاب من حيث لا يشعر لذلك ربنا عز وجل يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
(سورة الأنفال)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)﴾
(سورة التوبة)
 إن لم تأته طائعا دفعك إلى بابه دفعاً.
 بعض العلماء قال: " النبي عليه الصلاة والسلام قال حينما توجه إلى ربه قال: يامن أظهر الجميل وستر القبيح ".
 دققوا في هذا الدعاء: يامن أظهر الجميل، وستر القبيح، أي قبيح هذا ؟ خواطرك تأتيك خواطر لا يعلمها إلا الله خاطر قبيح جدا خاطر معصية، قد يأتي في بالك خاطر لا يرضي الله عز وجل، لكن ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى جميل الستر كل خواطرك محجوبة عن الخلق، لك أن تفكر بما تشاء ولك أن يخطر على بالك ما تريد وأنت عند الناس في أعلى مكانة، لذلك قال بعض الشعراء:
 والله لو علموا قبيح سريرتي  لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني  وملوا صحبتي
***
 شريكان إذا اطلع الأول على مايدور في خلد الثاني لفك معه الشركة، لو اطلع الزوج على ما يدور في بال زوجته لطلقها، لو اطلعت الزوجة على مافي ذهن زوجها لتركته، لو اطلع الأب على مايدور في بال ابنه عند تفكيره يموت أبيه لكرهه أعطني يدك لتقبيلها وفي باله خاطر آخر، لو اطلع الأب على ما يجول في خاطر ابنه لأبعده عنه. فالله عز وجل ستار جميل الستر هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعا ربه قال: يامن أظهر الجميل وستر القبيح.
 أي أنت في حصن حصين كل خواطرك الداخلية كل المشاعر كل الأفكار كل الطموحات، هذه كلها مستورة، فهذا من معنى المغفرة أي ستر عن الناس العيوب الفكرية، وشيء آخر الإنسان دون جلد قبيح جداً، لو رأيت إنساناً على مستوى العضلات فقط مخيف، إنها عضلات متداخل بعضها ببعض، لو رأيت عضلات الوجه وحدها لوليت من الإنسان فراراً، عشرات العضلات المتداخلة والمستقيمة والمائلة لكن يأتي هذا الجلد فيجعل الوجه جميلاً، فربنا عز وجل ستر العضلات بالجلد، ويوجد فتحات بالجسم كلها مستورة وما تراه هو المنظر الأنيق المهفهف هذا من معنى: يامن أظهر الجميل وستر القبيح، الوجه الجميل
 والمعنى الثالث أن المؤمن في الجنة يستر الله عنه ذنوبه، لو أن المؤمن اطلع على جاهليته لاحترق، شيء فوق طاقة البشر لأنه مع الكمال المطلق، لو أن مؤمناً تاب إلى الله توبة نصوحاً وغفر الله له إذا تذكر ما فعل في الجاهلية يحترق، فمن رحمة الله بالمؤمن أنه يستر عنه عيوبه وهذا ما فسره بعض العلماء في سر فناء الجسد، إن هذه الصور في الذاكرة فإذا فني الجسد بقيت النفس النفس طاهرة مقبلة مطهرة معطرة مرتبطة بالكمال الإلهي، أحد المؤمنين له جاهلية وتاب مادام حياً يرزق إذا تذكر جاهليته وكيف كان وفي أي مستوى كان في أي منطق في أي مخالفات في أي معاصٍ يحترق، يحرقه كماله، هذا في الدنيا.
 قالوا لابد للمؤمن من ذلة أو قلة أو علة ما الذلة ؟ هذه ذلة الجاهلية التي كانت قبل أن يتوب إلى الله عز وجل، لو أن الإنسان تاب من معصيته وشفيت نفسه منها إذا تذكرها تحرقه في الدنيا، فمن رحمة الله للمؤمن أنه في الجنة يستر الله عنه ذنوبه كلها، أبدا لا يرى شيئاً. ربنا عز وجل في سورة غافر قال:
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾
(سورة غافر)
 قال بعض المفسرين: " غافر الذنب إكراما وقابل التوب إنعاما وشديد العقاب بالكافرين وذي الطول أي ذي العطاء الكبير للسابقين والمقربين ".
 الحقيقة ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى للمؤمنين وأسم واحد للكافرين، فربنا عز وجل غافر الذنب وقابل التوب ذي الطول شديد العقاب، فقال: غافر الذنب لمن ظلم نفسه وقابل التوب للمقتصد وذي الطول للسابق، فبعض المؤمنين مقصرون مخالفون بعضهم مستقيمون بعضهم متفوقون، فربنا عز وجل للمقصرين غافر الذنب وللمقتصدين قابل التوب وللسابقين ذي الطول وللكافرين شديد العقاب، لماذا كانت صفة واحدة من صفات الله عز وجل للكافرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الكفر ملة واحدة فماذا بعد الحق إلا الضلال ))
 الكفر واحد أما الإيمان مراتب.
 قال: هذا الوحشي الذي قتل سيدنا الحمزة، هل تعتقدون بوجود عمل أشنع وأبشع وأقذر من أن يأتي وحشي عبد مقابل أن يعتق فيأتي بحربته ويبقر بها بطن سيدنا الحمزة عم النبي فقال بعد أن فعل ما فعل وعرف قبح جريمته هرب إلى الطائف وندم على فعلته وكتب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله هل لي من توبة ؟ قاتل عم النبي وعم النبي عليه الصلاة والسلام من أحب الناس إليه سيدنا الحمزة سيد الشهداء، " الله عز وجل بعمرة أو بزيارة المدينة المنورة له قبر قرب جبل أحد " فقال: يا رسول الله هل لي من توبة ؟ قال: فنزل قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48)﴾
(سورة النساء)
 قال: لعلي لا أدخل تحت هذه المشيئة
﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
 قال فنزل قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(70)﴾
(سورة الفرقان)
 قال: لعلي لا يكون عملي صالحاً فنزل قوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
 أي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي لا الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد والعقيم الوالد والظمآن الوارد.
 عندنا بعض التفسيرات اللطيفة لقوله تعالى
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾
 الله عز وجل لم يقل قل يا عبادي الذين فسقوا، قل يا عبادي الذين زنوا، قل يا عبادي الذين شربوا الخمر، قل يا عبادي الذين قتلوا، بل قال:
﴿يَا عِبَادِيَ ﴾
﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾
 فيها تلطف فيها ستر، فيها ستر لحالهم، تذوق الكلمات القرآنية.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾
 الشيء الثاني كلمة:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ ﴾
 يوجد في الآية شيء جميل جدا أي هذا العبد أضافه الله إلى ذاته، والله تحببا لعباده تسلية وتطمينا لهم وإكراما لهم نسبهم إلى ذاته.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾
 فزينتهم بنسبتهم إلى ربهم وقبحهم لا يعقل أن يغلب نسبتهم إلى ربهم لذلك حينما يقول لك الله عز وجل:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ ﴾
 يجب أن تفتخر يجب أن تطير إلى السماء حبا به وإقبالا عليه.
 الشيء الآخر.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾
 لم يقل في معصية ربهم لا، أسرفوا على أنفسهم أي هذه المعاصي ما أضروا بها أحداً أضروا بها أنفسهم ذات الله منزهة عن كل أذى.
(( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيء ))
 فـ:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾
 لا على الله عز وجل، ذات الله منزهة.
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾
 دقق في الآية:
﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
 أي هو الغفور إن أذنبت أو لم تذنب، هو الغفور دون أن تذنب ولو أنك أذنبت فهذه هي صفته الثابته هذه صفته القديمة والسرمدية والأبدية، قال وأما قوله تعالى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
(سورة الحجر)
 قال مر النبي عليه الصلاة والسلام ببعض الصحابة فرآهم يضحكون فقال عليه الصلاة والسلام: أتضحكون والنار بين أيديكم، فحزنوا جدا، ثم رجع القهقرى فقال: جاءني جبريل عليه السلام وقال: يقول الله تعالى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
 أيها الأخ الكريم لا تكون في حالة نفسية صحيحة إلا إذا جمعت بين الخوف والرجاء، فإذا غلب الخوف حالة مرضية وإذا غلب الرجاء حالة مرضية وازن نفسك، يوجد في الدم هرمون التجلط وهرمون التميع إذا غلب هرمون التجلط رأيت الدم كالوحل في الأوردة والشرايين فيموت الإنسان فورا، وإذا غلب هرمون التميع سال الدم كله من ثقب صغير، في كلا الحالين الإنسان ميت ولا بد من التوازن الدقيق بين التجلط وبين التميع وبعلاقتك مع الله عز وجل يجب أن يكون هناك توازن دقيق جدا بين الرجاء والخوف، فأكثر الناس يقول: لا تدقق ولا تعقدها الله غفور رحيم هذا رجاء أبله، لو قرأت القرآن لوجدت أن الله سبحانه وتعالى يقول كثيراً ثم إن ربك للذين تابوا وآمنو وعملوا الصالحات إن ربك من بعدها لغفور رحيم، إذا راجعت القرآن الكريم ودققت الآيات التي وردت من بعدها، تجدها آيات كثيرة:
﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)﴾
(سورة الأعراف)
 فالتفاؤل والرجاء دون توبة دون استقامة تفاؤل أبله أحمق، والخوف إلى درجة الإنسحاق واليأس من رحمة الله هذا يأس قاتل ولن تسعد مع الله عز وجل إلا إذا جمعت بين الخوف والرجاء قال تعالى:
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90)﴾
(سورة الأنبياء)
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)﴾
(سورة الأنعام)
 قال نبئ يا محمد:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
 قبل العباد جاءت شفاعة النبي وبعد العباد جاءت رحمة الله والعبد بين شفاعة وبين رحمة هذا من باب التطمين، ويقال أن أحد الخلفاء دخل عليه ولد ابنه وولد ابنته فقال لهما: أنتما ابن من ؟ فانتسب ابن بنته إلى أبيه وانتسب ابن ابنه إليه هكذا يروى وليس هذا الموقف كاملا، ملأ حجر ابن ابنه بالجواهر وملأ حجر ابن ابنته بالسكاكر، لأنه انتسب إليه، مغزى القصة أن الإنسان إذا قال: يا رب أنت ربي لا إله إلا أنت يا رب ليس لي أحد سواك، فانتسابك يرفعك عند الله عز وجل وربنا عز وجل أكرمك بهذا النسب فقال:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ ﴾
 فالذي يقرأ القرآن يجب أن يتذوق كيف أن الله سبحانه وتعالى نسب العباد إلى ذاته ويوجد أيضا تكرير قال تعالى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
 في الآية تكرار، بـ أنا، إني أنا، الياء ضميرالمتصل بأني هو نفسه أنا إني أنا، لماذا التكرار؟ للتطمين.
﴿أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
 بعضهم قال: " غافر الذنب " يمحو هذه السيئة من دفتر أعمالك، وأما الغفور يمسحها عند الملائكة وأما الغفار ينسيك أنت هذا الذنب، فإما أن تمحى من دفترك وإما أن ينساها الملك وإما أن تنساها أنت، هذا منتهى الكرم أن تأتي يوم القيامة وليس لك جاهلية وليس لك ذنب كمال في كمال، لذلك تسعد في جنة الله التي عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين.
 إذا تاب الإنسان في سن مبكرة هذا رائع جداً، ولكن إذا عرف الله في سن متأخرة فلا مانع فضل الله كبير، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل للعبد إذا تقدم سنه:
(( عبدي كبرت سنك وانحنى ظهرك وضعف بصرك وشاب شعرك فستحي مني فأنا أستحِ منك ))
 والقصة التي أتلوها عليكم كثيراً ولا أنساها أحد شيوخ الأزهر الكبار رأى خطيب مسجد شاباً فتمنى أن يكون مثله عمره خمسة وخمسون عاما رجل من صعيد مصر أمي لا يقرأ ولا يكتب لكن لا تنسوا أن مراتب الله العليا لا لمن سبق ولكن لمن صدق، فساق دابته إلى القاهرة وسأل عن الأزعر وهو يقصد الأزهر، فالذي سأله رجل صالح قال له: يا أخي اسمه جامع الأزهر وليس جامع الأزعر فتح الله عليك فتوح العارفين، القصة سمعتها من أحد العلماء ثم قرأتها في كتاب والقصة ثابته وتكاد لا تصدق، هذا الإنسان الأمي الصعيدي الجاهل الذي تمنى على الله أن يكون عالماً وشيخاً جليلاً وساق حماره إلى الأزعر وصوبه له هذا البائع توجه إلى هذا المسجد وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن وما زال يتقلب في مراتب العلم حتى عاش ستة وتسعين عاماً ولم يمت إلا وهو شيخ الأزهر، قصة ثابته لعل اسمه زكريا الأنصاري أحد شيوخ الأزهر السابقين، في الخامسة والخمسين فهذا العبد الرجل تاب إلى الله في سن الشيخوخة فإذا ناجى ربه يقول: يا رب لقد أبطأت في المجيء إليك تأخرت كثيراً.....
 وإذا تاب المرء وذاق طعم التوبة يقول لك: قلبي محروق، كيف أمضيت هذا العمر في معصية الله عز وجل، بعد أن ذاق طعم الطهر طعم القرب طعم الإقبال على الله طعم العمل الصالح طعم العلم طعم الشرف يقول: ياليتني عرفت الله قبل هذه السن، في المناجاة يقول: يا رب لقد أبطأت في المجيء إليك، فوقع في قلبه أن يا عبدي لا تقل هكذا إنما أبطأ في المجيء إلي من مات ولم يتب، مادام قد بقي يوم واحد فإنك تستطيع التوبة، مادام القلب ينبض الأمل كبير، كلما بكرت كلما كان أفضل لكن إنما أبطأ في المجيء إلي من مات ولم يتب.
 نحن كعبيد ما علا قتنا بهذا الاسم ؟ الله غفار وأنت ؟ ألا تنسى أخطاء الآخرين أبدا ولا تغفرها.
 قال العلماء: حظ المؤمن من اسم الغفار أن يستر من غيره ما يستره الله منه، أدق حق يعنيك من اسم الغفار أن تستر من إخوانك المؤمنين وغير المؤمنين ما ستره الله منك.
 امرأة زنت في عهد سيدنا عمر وأقيم عليها الحد ثم تابت وجاء من يخطبها، فجاء أخوها إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين جاء من يخطب أختي أفأخبره بذنبها وإقامة الحد عليها، غضب عمر رضي الله عنه أشد الغضب، قال: والله لو أخبرته لقتلتك.
 فأنت كمؤمن لك أخ صديق ذلت قدمه وقع في معصية علمتها أنت لا ينبغي أن تذكرها لأحد إذا كنت مؤمناً وعرفت اسم الغفار، كما أن الله غفر لك وتاب عليك يجب أن تغفر لإخوانك وأن تستر ذنوبهم، والحديث الذي تعرفونه جميعا:
(( الذنب شؤم على غير صاحبه، إن ذكره فقد اغتابه ))
 لك أخ وقع في ذنب إن تكلمت عن ذنبه فقد اغتبته وإن عيرته ابتليت به وإن رضيت منه هذا الذنب شاركته في الإثم، إذا أحدنا بلغه أن أخاه أكل مالاً حراماً يكفي أن يقول جيد ما فعل استطاع أن ييسر معيشته بهذه الكلمات يأثم معه، فثناؤه على معصيته، واستحسانه لعمله مشاركة في الإثم، واحتقاره بقوله كيف فعل هذا سوف يبتلى بهذا الذنب لأنه عيره به وذكر معصيته للناس استغابة له هذا على من لم يفعل الذنب فكيف بالذي فعل الذنب.
 فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب عظيم من هذا الشيء، عوّد نفسك أن تكون إيجابيا عوّد نفسك أن تذكر في الناس النواحي الإيجابية المحاسن، في تعاملك مع الناس تغافل عن عيوبهم وأبرز محاسنهم، يحبوك ومن الناس من يتغافل عن المحاسن كلها.
 النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( اللهم إني أعوذ بك من جار سوء إن رأى خيرا كتمه وإن رأى شراً أذاعه، اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء إن أحسنت لم يقبل وإن أسأت لم يغفر ))
 من أقبح العادات في الإنسان أن يستر الجميل ويذكر القبيح وأن يستر المحاسن ويظهر القبائح أما المؤمن يتغافل عن القبائح ويبرز المحاسن، النبي الكريم قال: الشرف معوان.
 عندك ابن تعرفه صادقاً أثنى على صدقه، من الآباء من يبحث أين الغلط في ابنه ويقول: أنت كذا وأنت كذا، دوماً يزرع اليأس في ابنه، ألا يحمل ابنك أية ميزة، قال: يا رسول الله: ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال: إيمان بالله، قال: أمع الإيمان عمل، قال: أن يعطي مما أعطاه الله، قال: فإن كان لا يملك، قال: أن يعين الأخرق، قال: فإن كان لا يستطيع، قال: فليأمر بالمعروف، قال: فإن كان لا يحسن، قال: أما تريد أن تدع لصاحبك من خير ؟
 لا يوجد إنسان كله أخطاء ولا ميزة له، عندك موظف كله سوء؟ أنا مسرور من أمانتك اطمئن، شخص دخل على النبي عليه الصلاة والسلام دخل على المسجد ليلحق ركعة مع رسول الله فركض وأحدث ضجة وجلبة وصخباً وضجيجاً وشوش على الصحابة صلاتهم فالنبي الكريم هكذا علمنا فقال له:
((عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ ))
(صحيح البخاري)
 قال: " نثر الريح على الماء زرد " أحد الشعراء الأمراء فلم يتمكن من إكمال البيت، وراءه جارية قالت له: " ياله درعا منيعا لو جمد " أعجب بذكائها وشاعريتها فتزوجها، ثم أصبح هذا الإنسان ملكاً من ملوك الأندلس وهو ابن عباد تزوجها وعاش معها حياة في أبهى قصوره، اشتهت مرة حياة الفقر فأرادت أن تسير في الطين فجاء بالمسك والكافور فجبلهما بماء الورد وقال: هذا طين دوسي فيه، ثم جاء ابن كاشفين من إفريقية وحارب ملوك الطوائف وقضى عليهم وأودعهم في السجن، وساءت حاله وله قصيدة تبكي الإنسان، النتيجة قالت له مرة هذه الجارية التي أصبحت ملكة وأكرمها إكراما ما بعده إكرام قالت له مرة: ما رأيت منك خيراً قط، فأجابها: ولا يوم الطين ؟
 عندك زوجة عندك ابن دوما تلومه وتذمه ألا يحمل أية ميزة، لقد حطمته، هذه الزوجة ألا تحمل أية ميزة أليست شريفة إذا ذهبت إلى عملك ألست مستريحا من عفتها وشرفها، فالإنسان لا يغفل عن ميزات الناس، النبي الكريم رأى صهره مع الأسرى، أتى ليقاتل رسول الله صهره زوج ابنته لم ينسَ أنه صهر ممتاز فقال: والله ما ذممناه صهرا.
 أرقى شيء عند الله عز وجل أن تكون منصفاً حولك زوجة أولاد إخوان أصحاب وجيران وأتباع وموظفين، أنت تعلم ميزاتهم دوما وتعرفها حق المعرفة يحبونك جميعا، عندئذٍ يتقبلون منك أية ملاحظة وأي نقد، قال له: " زادك الله حرصا ولا تعد".
 فأنت كمؤمن عليك أن تتخلق بأخلاق الله عز وجل، يوجد قصة رائعة جدا عندما جاء عكرمة مسلماً بالله ماذا قال النبي الكريم، قال: " جاءكم عكرمة مسلما، فإياكم أن تذموا أباه ". من أبوه ؟ أبوه أبو جهل أعدى أعداء النبي قال:
(( فإن ذم الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت))
 أنت كمؤمن يجب أن تظهر الجميل وأن تستر القبيح، أما تصيّد الأخطاء وتصيُّد العيوب ليس هذا من أخلاق المؤمن هذا من أخلاق أهل الدنيا.
 يروى أن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مر بجيفة ولا أعتقد أنه يوجد في الأرض أبشع لا في المنظر ولا في الرائحة من الجيفة، فقال أصحابه: ما أنتن ريحها، فقال عليه الصلاة والسلام: بل ما أشد بياض أسنانها أنظروا ما أجمل أسنانها، لعل مغزى هذه القصة، لن تكون أباً ناجحاً ولا معلماً ناجحاً ولا داعياً ناجحاً ولا تاجراً ناجحاً ولا مدير معمل ناجحاً ولا مدير مستشفى ناجحاً إلا إذا عرفت ميزات الذين حولك، ذكرتها وقدرتها بعدئذ وجه لهم ما شئت من النصائح فيقبلونها منك، أما إذا غفلت عن ميزاتهم وتتبعت أخطاءهم فهذا مما يبعدهم عنك.
 على كلٍ هذا الاسم من أسماء الله الحسنى وكما تعلمون لا يعرف الله إلا الله هذه بعض الآيات والأحاديث التي وردت حول اسم الغفار ويجب أن يدفعنا اسم الغفار جميعا إلى طلب المغفرة من الله عز وجل.
 اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا كريم، هذا الدعاء كان من أحب الأدعية إلى النبي عليه الصلاة والسلام