المصطفى
اسمٌ من أسماء الله الحُسنى وهو زائدٌ عن الأسماء الحُسنى التي وردت في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتي بلغت في أحاديثه التِّسْعة والتِّسْعين.
الاصطفاء في اللغة تناوُل صَفْوِ الشيء كما أنّ الاخْتِيار تناول خيْرِه أنْ تأخذ أصْفى ما في الشيء اصطِفاء وأنْ تأْخذ أَخْيَر ما في الشيء اخْتِيار، وصَفْوَة الشيء ما صفا وخلص والنبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون جميعاً صفْوَة الله من خلقِه ؛ من الذي اصْطفاه ؟ المصْطفي الله جل جلاله هو الذي اِصْطفى النبي صلى الله عليه وسلّم وجعَلَه صفْوة خلْقِه، وتقول: صَفا الجوّ لم تكُن فيه لطْخَة غَيْمٍ سماءٌ صافِيَةٌ زرقاء واصطفاه أخذَ منه صفْوَه أيْ خِيارَه.
ولو اِصْطَفَيْت الفاكِهة أخَذْت أطْيَبَها وأكْبَرها إن كان الكِبر فيها له ميزة أو أصْغَرَها إن كان الصِّغَر له فيها ميزة أو أشدّها زُهُواً إن كان اللون أجمل ما فيها، والصَّفِيّ هو الحبيب المُصافي وصافاه مُصافاةً صدَقَه في الإخاء والموَدّة، والعسَل المُصفى كما تعلمون الذي أزيل عنه الشمع والقذى، واصْطَفَيْت كذا على كذا أيْ اخْتَرت كذا على كذا وهي بعض معاني الاصْطِفاء في اللغة.
اصْطفى الله بعض عِباده قد يكون بِإيجادِه صافِياً وقد يكون باخْتِياره من بين عِبادِه المُتَفَوِّقين قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
(سورة آل عمران)
أيها الإخوة موضوعٌ دقيق دقيق، لو أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الصَّفْوة والخِيرة عن غير قصْد منه وعن غير إرادةٍ واخْتِيار لما كان لِكلمة الاصْطٍفاء معنىً، لكن لِخلْق الله الناس من نفْسٍ واحدة أيْ من خصائص واحدة ومن جِبِلَّةٍ واحدة ومن فِطرةٍ واحدة ولأن الله عز وجل خلق البشر جميعاً من صٍبْغةٍ واحدة وخصائص واحدة وانْطلقوا بِحَسَب اخْتِيارهم وأهْدافِهم، فإن الله تعالى بعد ذلك اِصطفى منهم خِيارَهم قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
إذاً هناك بالاصطِفاء شيء كَسْبي وشيء وَهْبي وأوْضح مثَلٍ لو أننا نريد أن نعَيِّن إنساناً في وظيفة مرموقةٍ جداً وهذه الوظيفة تحتاج إلى لغةٍ وإلى قُدْراتٍ وقوة شخصية وإلى ثقافة عامة وإلْمامٍ بالعلوم والحقوق وأَجْرَيْنا مُسابَقة واشْتَرطْنا فيها إجازة في اللغة الإنجليزية وإجازة في العلوم والحقوق وهَيئات معيَّنة ومَلَكات معيَّنة وخصائص ومن كل هذا الحشد نخْتار من بين المائة واحداً وهو كله كسْبي كَسبه المتسابِقون أما حينما نختار أحدهم ونُعْطيه مُهِمّة ومَرْكَبة وراتِباً ضَخْماً وصلاحِيات كبيرة وهذا وهْبي.
في الاصْطِفاء هناك جانب كسْبي وجانِب وهْبي ولو أن الاصْطِفاء كله وهْبي لفَقَد الاصْطِفاء معناه فَمَثلاً لو أعْطَيْنا الأسْئِلة لِطالِبٍ ثم طَرَحْنا السؤال على كل الطلاب فإذا بِهذا الطالب ينال الدرجات التامة عِنْدَئذٍ نقول: هذا نصْطَفيه فهذا الاصْطِفاء لا معنى له إذْ ليس هناك تكافؤ فُرَص وليس هناك تساوٍ بين الطلاب أما حينما تكافؤ الطلاب جميعا في عدد الأسْئلة ويفوز أحدهم بِالدرجة الأولى عن جدارةٍ وأهْلِيَّةٍ عندها نقول: فلان اصْطَفَيْناه لِيُتابِع تعليمه في جامِعات الغرب.
فهذا الاصطِفاء له معنى، إذاً عندما ينعدم تكافؤ الفُرَص ولم يكن تساوٍ بين المطلوب، ولم تتوفر خصائص مُشْتَركة فالاصْطِفاء لا معنى له، الاصْطِفاء فيه جانِب كسبي وآخر وهْبي فالجانِب الكسبي أنّ الله سبحانه وتعالى عَلِم من بين خلقِه أكثرهم معْرِفةً وأكثرهم اسْتِقامة وتضْحيَةً وإيثاراً وأكثرهم قرباً وأكثرهم إقْبالاً فاصْطَفاه وجعله نبِياً لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
عن أنس: إن الله اختارني واختار لي أصحابا واختار لي منهم أصهارا وأنصارا فمن حفظني فيهم حفظة الله ومن آذاني فيهم آذاه الله
الاصْطِفاء فيه جانِب كسبي وآخر وهْبي فإذا أَلْغَيْنا الكسبي أبْطَلْنا معنى الاِصْطِفاء وإذا أَلْغَيْنا الوَهْبي أبْطَلْنا ميزات الاصْطِفاء يقول الله عز وجل:
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)﴾
(سورة البقرة)
فما معنى هذه الآية ؟ معنى ذلك أنّ الدين صافٍ من كل شائِبة ومن كل ريْبٍ وشكٍ وتطرّفٍ وغُلُوّ ومن كل بعدٍ عن الحقيقة قال تعالى:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
(سورة البقرة)
وقال تعالى:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾
(سورة المائدة)
إن الله اصْطفى لكم الدين فلا تموتُن إلا وأنتم مسلِمون، كل من يعْتَقِد أن هذا الدين يحتاج إلى تبديل إلى إضافة أو تعديل أو حذف أو تغيير هو إنسان يرد كلام الله عز وجل ؛ إن الله اصْطفى لكم الدين فلا تموتُن إلا وأنتم مسلِمون أيْ أنّ القضايا التي عالجَها الدين قضايا تامّة وأن طريقة المعالجة طريقة كاملة.
وفي آل عمران قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
أيّة قِصةٍ تنال من الأنبياء وتجعلهم كَبَقِيَّة البشر ينْحَرِفون ويرْتَكِبون المعاصي والآثام كما ورد في الكتب القديمة المقدّسة التي نُحِلت وأُضيف عليها وحُذِف منها هذه قِصصٌ باطِلة لا تقوم على أساس لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
اخْتارهم على عِلْمٍ، أيْضاً اصْطفى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَكون سيِّد البشر وخاتم الأنبْياء ولِيَكون صَفْوة البشر لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام حبيب الله وخليل الله وصَفِيُّ الله وخيرة الله من خلقه.
وقال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾
(سورة آل عمران)
أول اصْطِفاءٍ واضِح ولكن ما معنى الاصْطِفاء الثاني ؟ إن الله اصْطفاك وطهّرك واصْطفاك على نساء العالمين.
قال بعض المفسِّرين: " الاصطفاء الأول هو اِصْطِفاء القُرْب من الله والاصْطِفاء الثاني أن هذه السيِّدة اِخْتَصَّها الله بِأن تُنْجِب ابنها من دون زواج " أنى لكِ هذا ؟ قالت هو من عند الله.
وقال تعالى:
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
(سورة الأعراف)
لو أردنا أن نُوَسِّع الدائرة ؛ فأنت حينما تريد أن تُخْلِص لله عز وجل وحينما تطلب العلم حثيثاً وحينما تعمل بِما علمت وتتقي الشبهات وتنطلِق إلى الله بِهِمَّةٍ عاليَة فلعلّ الله يصطفيك ويسمح لك أن تُعَرِّف به وهذا شرفٌ عظيم، فالإنسان الصادِق إذا دعا إلى الله لا يرى إلا أنّ الله تعالى تفضّل عليه وسَمَح له أن يَدْعُوَ إلى الله وأن يتحدّث عن الله وإلا كان في وضْعٍ آخر.
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) ﴾
هذه آية دقيقة جداً أيْ أنّ مهِمَّة العبد تنتهي حينما يُطيع الله عز وجل ثم يتلقى الخير بِالشكر والامتنان ؛ تنتهي مهِمَّتُك عند الطاعة والشكر وما سِوى ذلك فهو من شأن الله لا من شأنِك:
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) ﴾
طبِّقْ ما أمَرْتُك به، ويُؤَيِّد هذا المعنى قولُه تعالى:
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
(سورة الزمر)
فالإنسان أحْياناً يحْمِل هموم الأرض وأحْياناً يتمَزّق ولكن لو عرف أنّه ليس مُكَلَّفاً إلا أن يُطيع الله عز وجل وأن يشكُرَه لَحُلَّت مُشْكِلاته ؛ أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد ؛
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
(سورة هود)
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)﴾
(سورة الفتح)
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)﴾
(سورة البروج)
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
(سورة الزخرف)
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
وقد يقول أحدكم ما علاقتنا بِهذا الدرس إذْ الاصْطِفاء للأنبياء ونحن لسْنا أَنْبِياء ولا صِدّيقين؟ اِسْتَمِع أيها الأخ الكريم وأَبْشِر بِقولِه تعالى:
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)﴾
(سورة الحج)
لا تجد إنساناً دعا إلى الله إلا وسَمَح له ؛ فإن كانت دَعْوَتُه صادِقة يُوَفِّقُه ويصرف قلوب الناس إليه و من ثم تهْفو إليه القلوب وتسْتَفيد منه وتنْعَقِد صِلَتُها بالله عن طريق تَوْجيهِهِ فهذا نَوْعٌ من الاصْطِفاء قال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)﴾
(سورة النور)
أيْ أذِن الله تعالى أنْ تُرْفَع وأذِن لِمن فيها أن يذكروا اسمه، دائِما الأشياء التي تخصّ الأنبياء يُمكن أن تُوَسَّع الدائرة لتشمل كل صادِقٍ ليعمل مثل عملهم ولعل الله سبحانه وتعالى يُطْلِق لِسانك ويُلْهِمك الصواب والكلام السديد والحِكْمَة وقَلْباً مُتَأَجِّجاً وتهْفو إليه القلوب كل هذا نوعٌ من الاصْطِفاء وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
وقال تعالى:
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)﴾
كل هذه الآيات فِعْلها في الماضي إلا هذه الآية الله يصطفي فَفِعْلها في الحاضِر وهو فعلٌ مضارع يدل على الاستِمرار فالله دائِماً يصطفي فإذا كنت من عباد الله الذين اصْطفاهم الله عز وجل وسَمَح لهم أن يَنْطِقوا باسْمِه وأن ينْقُلوا للناس الحقائق وأن يكونوا دعاة خير لا دعاة شر ومفاتيح خير لا مفاتيح شر فهذا من أعظم العطاءات.
سمعْت أنّ أحد الذين اخْتَرعوا برامِج الحاسوب وتَفَوَّقوا جداً في مجالها كان أحدهم رغم أنه شابٌ في مقتبل العمر يمْلِك ثلاثة وعشرين مليار دولارٍ أما حينما يصْطفيك الله عز وجل لِتَنْطِق بالحق ولِيَكون عمَلُك في خِدْمَة الخلق فإن هذا الاصطفاء هو العطاء الكبير الذي يربو على كل المليارات قال تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)﴾
(سورة الشرح)
وقال تعالى:
﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)﴾
(سورة الضحى)
هذا اِصْطِفاء وقال تعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
(سورة الحجر)
وقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)﴾
(سورة المائدة)
ولم يقل يا محمد. بل خاطبه وناداه يا أيها الرسول، كل هذا اصْطِفاء، ولقد أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدِس وعُرِج به إلى السماء وعلِم وهو في السماء أنه سيّد الخلق وحبيب الحق هذا كله من الاصْطِفاء، بل قل غاية الاصطفاء.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ ))
(رواه مسلم)
أما البِشارة ألَيْس بعد النبي علماء أجِلاء أليس هناك دعاة مُخْلِصون وفقهاء ومُحَدِّثون أليْسَ هناك من دعَوا إلى الله، كل هؤلاء بِالمعنى الواسِع اِصْطَفاهم الله وأجْرى على أيْديهم الخير وأَنْطَق لِسانهم بِالحق وجعل قلوب الناس تهْفو إليهم ؛ هذا نوْعٌ من الاصْطِفاء.
لعلّ من أعظم طموحات المؤمن أن يَصْطَفِيَهُ الله عز وجل لِيَكون داعِيَةً إليه ؛ يا رب لقد شَرَّفْتني بِمَعْرِفَتِك والدعْوَة إليك فإن علِمْتَ صِدْق نِيَّتي فاحْفظْها لي واحْفَظْني لها وإن علِمْتَ خِلاف ذلك فعالِجْني قبل أن أموت، فَعَلى الإنْسان أن يطْمَح ؛ ما هو دوْرُكَ في الحياة ؟ هل هو الأكل والشرب والنوم والراحة واللهوُ واللَّعِب ؟ أم هو معْرِفة الله ولنُشَمِّرُ من أجل أن نُطيعَهُ ونتقرَّب إليه ؛ هذه بِشارة:
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾
هؤلاء الذين عكفوا على العِلْم وتَرَكوا مؤَلَّفاتٍ قيِّمة تجدها في كل بيْتٍ، الإمام النووي ألَّفَ كِتاباً بِالفِقْه يُعَدُّ فريداً في بابه وهو مُغْني المُحْتاج وأَلَّفَ كِتاب الأذْكار ورِياضِ الصالحين وهذا الإمام الشافِعي أوَّل من ألَّف في أصول الفِقْهِ وله كِتاب الأم وله المذهب الشافِعي هؤلاء الذين اصْطفاهم الله ومكَّنَهم من العِلم وجعَلَ لهم بَصَماتٍ واضِحَةٍ في الحياة فهؤلاء أيْضاً بِالمعنى المُوَسَّع ممن اصْطفاهم الله عز وجل.
إذا كنت ممن اِصْطفاه الله عز وجل فلَقَد علِم فيك الإخلاص والصِّدق والحب والطاعة والوَرَع فكُنت ممن اِصْطفاهم الله عز وجل، ماذا ينتظِرك في الدنيا والآخرة قال تعالى:
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾
(سورة النمل)
فإذا كنت ممن اصْطفاه الله عز وجل فأنت في سلامٍ ؛ في سلامٍ مع نفْسِك وفي سلامٍ مع من هم حوْلَك وفي سلامٍ مع ربك وحياتك سلامٌ وتنْتَقِل بعْدها إلى دار السلام وتَتَّصِل نِعَمُ الدنيا بِنِعَمِ الآخرة.
ومِن تَكْرِمَة الله للنبي عليه الصلاة والسلام أنّ الله اصْطفاه واصْطفى له أصْحابَه، فإذا كنت تعيش بِبَلَدٍ وحوْلَك مؤمنون أطْهار طيِّبون وأتْقِياء مخلِصون ومُحِبون هذه حياةٌ مُتَمَيِّزَة وهذه الحياة قَدِّرها الله لك وليس هناك إنسان أسْعَد من أن يعيش مع أناس يتفاهمون فيما بينهم تحدوهم في علاقاتهم مرضاة الله. ومع من يكون على شاكِلَتِه ومع الذي يُقَدِّر ما يُقَدِّر ويُبْغِض ما يُبْغِض لا تُصاحِب من لا يُنْهِضك حاله ولا يدُلُّك على الله مقالُهُ ولا تُصاحِب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له.
فمِن نِعَم الله الكُبْرى على المؤمن أنَّه يعيش بين المؤمنين ؛ هو طاهِرٌ وحالُه بين الأطهار وهو صادِق وهو بين الصادِقين وهو مُحِبٌ لله ورسولِه وهو بين المُحِبين فأَجْمَل ما في الحياة أن تعيش مع إنْسانٍ هو على شاكِلَتِك يفهمك سلوكاً وعملاً، ويفْهم منك وتفْهم منه، هذه هي الحياة الحقيقية، لذلك حينما اخْتار النبي عليه الصلاة والسلام سيِّدنا الصِديق لِصُحْبَتِه في الهِجْرة بَكى من شِدَّة الفَرَح، قال تعالى:
﴿ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
إذا كان الله صَفِيُّكَ وإذا كانت موَدَّتُك وحُبُّك وطاعَتُك لله عز وجل هذا خيرٌ لك أم أن تكون لإنسانٍ لئيمٍ قوِيٍّ لا يَعْرِف حجْم تضْحِيَتِك من أجْلِه فرْقٌ كبير
﴿ آاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
هذا اسْتِفهام إنْكار وليْسَ هناك شيءٌ يجْمع بين حالتين قال تعالى:
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
(سورة القصص)
وقال تعالى:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
(سورة السجدة)
وقال تعالى:
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾
(سورة القلم)
وقال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
(سورة الزمر)
قال تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)﴾
(سورة فاطر)
فإذا آتاك الله الكِتاب تِلاوةً وفَهْماً وتطبيقاً فقد أوتيت خيراً كثيراً ومن أوتِيَ القرآن وظن أن أحداً أوتِيَ خيْراً منه فقد حقَّر ما عظَّمَهُ الله فالقرآن غِنىً لا فقْر بعْده، قال تعالى:
﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾
من العِباد حِيال الكِتاب من هو ظالِمٌ لِنَفْسِه ومنهم من هو مقْتَصِد في فِعْل الخيرات ومنهم من هو سابِقٌ بِالخيرات بِإذْن الله، أَتُلاحِظون الاصْطِفاء ؟
مثَلاً لدَيْنا مئة طالِبٍ يريدون أن يتخرجوا من الجامعة ونريد أن نصطفي واحداً منهم ليكون في منْصِبٍ رفيع لِيَكون عميد كلِيَّة مثلاً أو أُسْتاذاً في الجامِعة أو رئيس المجْمَع العلمي العربي فَحِينما يُصْطفى من بين المُتَفَوِّقين فهذه هي الجِهَة الكسْبِيَة ويُمْنَح اِخْتِصاصات ومُكافآت وميزات وهذه الجهة الوَهْبِيَة، ففي الاصْطِفاء جانِبٌ كسْبي وإلا لا معْنى للاِصْطِفاء وفي الاصْطِفاء جانِب وهْبي وإلا لا ميزَة له عِنْدئذٍ.
وفي القرآن الكريم يتحدّث الله عن الأنبِياء الكِرام قوله تعالى:
﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (46)﴾
(سورة ص)
الأنبِياء مُصْطَفَوْن فَهُم قِمَمٌ في الكمال ونُخْبَةٌ البشَرِيَّة وقِمَمُ المجْتَمَع البشري وملوك البشر هؤلاء الصحابة الكِرام ملوك المسلمين بِالمعنى الروحي والأنبِياء والمُرْسلون صَفْوة الله من خَلْقِه قال تعالى:
﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (44)﴾
(سورة ص)
رُؤْيَتُهم عميقة وأَعْمالُهم طيِّبة ؛ واذْكر عِبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيْدي والأبْصار فهم بِقَدْر ما هم مُتَفَوِّقون في رؤْيَتِهم بِقَدْر ما هم طيِّبون في أعمالهم.
أيها الإخوة الكرام، عُلُوّ الهمّة من الإيمان، حينما يسْمح الله لك أنْ يصْطَفيك أو أن يُقَرِّبك أو أنْ يُلْهِمك أو أن يجْعَلَك تنْطِق بالحق أو أن يجعل هداية الناس على يَدَيْك أو أن تهْفو قلوب المؤمنين إليك هذا نوْعٌ من الاِصْطِفاء وما عِند الله لا يُنال بِمَعْصِيَة الله ألا إنّ سِلْعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ويجب أيها الإخوة أن تتأكّدوا أنه لا بد من الابْتِلاء والإنْسان كما تعْلمون يمُر بِمراحِل ثلاث:
- مرحَلَة يؤدّب
- مرحلة يُبْتلى
- مرحلة يُكَرَّم
ففي مرحلةٍ يؤدّب وفي مرْحلة يبْتلى وفي مرْحلةٍ يُكرَّم وهذه المراحل قد تتداخل وقد تتمايَز لكن لا بد من التأديب ولا بد من الابْتِلاء ولا بد من الإكرام والعطاء لأنّ هذه سُنّة الله في خلْقِه وقد ورد في تفسير قوْلِه تعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
(سورة الرحمن)
جنّة في الدنيا وجنّة في الآخرة.
التطبيق العملي أو موْقِف المؤمن من هذا الاسم العظيم المُصْطَفي، فَمَوْقِف المؤمن أنه يطْمَح في اِصْطِفاء الله له لِخِدْمة خلْقِه، ومن هنا قال الله عز وجل:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)﴾
(سورة التوبة)
حينما اصْطفى الله عبْده المؤمن فهذا المؤمن باع نفْسَه لله، أريد أن أُوّسِّع الموضوع ؛ الأنبياء مُصْطَفَوْن والرسل مُصْطَفَوْن الرسل قِمَم البشر والرسل صفْوة البشر ولكن المؤمنين لهم قَدْرٌ يسير على قدْر إخلاصِهم وعلى قدْرِ طاعَتِهم لله فالله يُكَلِّف الإنسان أعْمالاً يُجْريها على يَدَيْهِ ويَرْفَعُهُ بِها فهذا نوْعٌ من الاصْطِفاء.
أعرِف شخْصاً قرأ القرآن في الخامِسَة والخمْسين من عمُره وحَفِظَه وكان طُموحُهُ أن يكون إماماً في مَسْجِد وسُبْحان الله قرأ القرآن وحَفِظه وعُيِّن إماماً لِمَسْجِدٍ جيِّد فصار يُصلي الصلوات الخمْس وله بعد الصلوات كلِمَةً يُلْقيها على الناس هذا طُموحُهُ فاصْطَفاه الله عز وجل فالأمور دقيقة عند الله تعالى بِحَسَبِ صِدْق الإنسان وطاعَتِه لله يصْطَفيه قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾
(سورة السجدة)
فالصَّبر إذاً طريق الاصْطِفاء هذا أوّلاً وقوله تعالى:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾
(سورة البقرة)
فَتَطْبيق الأمر والطاعة مع الإخلاص سبيلٌ إلى الاصْطِفاء هذا ثانِياً، وقوله تعالى:
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)﴾
(سورة يس)
فالترفُّع عن حُطام الدنيا وعن مُتَاعِها ومالِها وعن مُكْتَسَباتِها سبيلٌ إلى الاِصْطِفاء هذا ثالثاً وقوله تعالى:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾
(سورة آل عمران)
فطِلِبُ العِلم طريق إلى الاصْطِفاء، تَصَوَّر إنساناً درس الابتدائي والإعدادي والثانوي ونال درجاتٍ عاليَة جداً ثم دخل كلِّيَة الطِّب وتخرَّجَ طبيباً ثم تابَع دِراسَتَهُ العُلْيا وعاد بِأكبر شهادة في العالم ؛ ماذا ينْبَغي أن يفْعَل هذا الإنسان بعْد أنْ تخرَّجَ ونال الدرجة العُلْيا ؟ ينْبَغي أن يُطَبِّب الناس ويفْتَح عِيادة وإلا لا معْنى لِهذه الدِّراسة.
دقِّق الآن ! أنت حينما تطلب العلم تُؤَهِّل نفْسَك لِماذا ؟ للدعْوَة إلى الله ومن الذي سوْف يسْمَح لك أن تَدْعُوَ إلَيْه ؟ هو الله، فالله عز وجل بِطريقةٍ أو أُخْرى بِشَكْلٍ معروفٍ أو غيرِ معْروف يُيَسِّر لك طريق الدعوة إليه لأنّك تعلَّمْت العِلم فَصِرْتَ مؤَهَّلاً أن تدْعُوَ إلى الله، فكل إنسان يطلب العلم بِإخلاص ويسْعى لِطاعته تعالى بِإخلاص ويحْرُص على رِضْوان الله وعلى القُرْبِ منه يصْطَفيه الله عز وجل ويُجْري على يَدَيْه الخير بل بِالتعْبير الشائِع: " الله جبار الخواطِر ".
عندما يتعلم الإنسان يتعلَّم عِلْماً صحيحاً ويلْزَم مجالِس العِلْم ويجْلِس على رُكْبَتَيْه ويطْلُب العلم لا بد من أن يصْطَفيه الله عز وجل بِالمعنى الواسِع فَيَجْعَلُه بِشَكْلٍ أو بِآخر باباً للخير، لذلك من أدْعِيَة النبي عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم ارْزُقني طيِّباً واسْتَعْمِلني صالِحاً ))
حُدِّثَ عن بعض العلماء بأنه: اشْترى الصابون كَفَنَهُ والصابون الذي ينْبَغي أن يُكَفَّن به من بلَدٍ ليس فيه مالٌ مُغْتَصَبٌ من شِدَّة الوَرَع.
فالإنسان عليه أن يدْعو: " اللهم ارْزُقني طيِّباً واسْتَعْمِلني صالِحاً " ما معنى: واسْتَعْمِلني صالِحاً ؟ أيْ الله يصْطَفيك لِعَمَلٍ صالِحٍ وما معنى الحِكْمَة القائلة: إذا أردْت أن تعرِف فيمَ أقامك فانْظر فيمَ اسْتَعْمَلك ؟ يعني الله اصْطَفاك، تجد شخْصاً آتاه الله حِكْمَة يتصَرَّف فيها وفهْماً دقيقاً وخِبْرات مُعَيَّنَة وعِلْماً ودعْوَةً وجاهاً وقوةً وطلاقة وحِكْمَة فكل إنسان يهيئ نفسه لِفِعْلِ الخير الله جل جلاله لابد من أن يجْبِر كسْرَه ويُجْري على يَدَيْهِ فِعْل الخير، قد تقول: أنا من أنا حتى اُصْطَفى ؟ أنت إنسان ومُؤَهَّل أن تكون من المصْطَفين هذا بِالمعنى الواسِع ؛ إن قلت بالمعنى الواسِع هذا للمؤمنين وإن قلت بالمعنى الضَيِّق فهم الأنبِياء والمُرْسلون لأن الله يصْطَفي من الملائكة رُسُلاً ومن الناس فَلَما يطلق الله تعالى لِسانك ويجْعَل قلوب الناس تهفو إليك فهذا هو معنى الاِصْطِفاء وهو المعنى المُوسَّع فإذا مكَّنَكَ الله من بِناء مسْجِد فهذا نوع من الاصطفاء، وتُطْعِم الناس من مالك الحلال فهذا نوع من الاصطفاء كذلك وإذا سَمَح لك أن تُعْطي وقدَّر لك من يأخذ وسَمَح لك فهذا كذلك نوع من الاصطفاء، تكون في بيتٍ من بيوت الله وليس في ملهى من ملاهي الشياطين.
أنا لا أنْسى أني كنت مَدْعُواً وعليك أن تحمد الله ذات مرة لافْتِتاح مسْجِد وجلس بِجانْبي مدير الأوقاف الذي سَيَفْتتَح هذا المسجِد، فقلت له اُشْكُر الله عز وجل على أنه قد قدَّر الله على يدَيْك أن تفْتَتح هذا المسْجد إذْ هناك من يفْتَتِح الملاهي ودور القِمار، قد تسعى وتهنأ فيكون عملُك مع العلماء فهناك من يعمل مع الفنانين ومع طبقاتٍ أخرى من الناس لهم انحرافاتهم فيشقى بهم ومعهم، وهناك من يرْعى شؤون المساجد فليحمد الله وهناك من يرعى شؤون الملاهي فليبتئس وليندب نفسه، وآخر يُفَكِّر كيف يدْعو إلى الله وذاك يُفَكِّر كيف يدعو إلى الشيطان وإلى المعاصي والآثام فلما يُجَنِّد الإنسان نفسه لِطاعة الله يصْطَفيه الله تعالى فالله إذا أعْطى أدْهَش.
هل تجد إنساناً في الأرض أعَزَّه الله كالنبي عليه الصلاة والسلام ؟ شيءٌ غير معْقول أربعة ملايين إنسان يذهبون إلى الحج كل عامٍ ويزورون جميعاً النبي عليه الصلاة والسلام ويَقِفون أمام مقامِه يبْكون ولم يلْتَقوا به ولا سمِعوا من كلامه ولا نالوا من ماله وبينه وبينهم آلاف الكيلومتْرات فما الذي هداهم إلى أن يأْتوا إلى مقامِه الشريف ؟ مُتَذلِّلين باكين مُتَضرِّعين ؛ هذا اِصْطِفاء فالله تعالى لما قال:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾
جعل الصبر طريق الاصْطِفاء وقوله تعالى:
﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾
فالطاعة التامة المُخْلِصة طريق الاِصْطِفاء وقوله تعالى:
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾
(سورة يس)
فالترَفُّع عن الدنيا طريق الاصْطِفاء وقوله تعالى:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾
(سورة آل عمران)
فَطَلب العِلم طريق الاصطفاء، وقوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)﴾
(سورة الأحزاب)
فعليك ألاَّ تخشى إلا الله، فهذا طريق الاصْطِفاء ؛ فلا أريد أن يكون درسي نظرياً وإنما أريده عملِياً ؛ كُن طموحاً لقد قلت البارحة كلِمة: أحْياناً يتوَهَّم الإنسان أنّ الدعاة هم خطَباء المساجد دون غيرهم ! لا... أنت لدَيْك أقْرِباء وأصْدِقاء وجيران وزملاء وأولاد وإخوة وأخوات... ألا تسْتطيع أنْ تنْصَحهم وأن تجْلِس معهم وأن تُعَلِّمهم وبِهَدِيَّةٍ إليهم تكسب ودهم وقلوبهم وإصغاءهم لحديثك، ولك أن تكون من المُصْطَفَيْن الأخْيار إذا كنت مُخْلِصاً لله الكبير ؛ إذاً طريق الاصْطِفاء يحْتاج إلى طاعة وإلى طلب عِلْمٍ وإلى إخْلاص وإلى حُبٍّ وإلى شجاعةٍ وإلى جُرْأة فلَعَلَّ الله تعالى يصْطَفيك قال تعالى:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
(سورة السجدة)
وقال تعالى:
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾
(سورة القلم)
إنسان همُّه الوحيد أن يُرَسِّخ الحق في المجْتَمع ويُدْخل السعادة على المؤمنين وآخر هدفه أن يبْني مجْدَه على أنقاض الآخرين وغِناه على فقْرِهم وحياته على موْتِهِم وأَمْنَه على خوْفِهم شتانَ بين هؤلاء وهؤلاء ! فلِذلك ضَعْ نفْسَك موْضِعاً يصْطفيك الله في هذا الموْضِع وليس الوليُّ الذي يطير في الهواء ولا الذي يمْشي على وَجْه الماء ولكن الوليَّ كل الوليِّ أن يجدك الله حيث أمرك ويفْقِدُك حيث نهاك فإذا كنت في مَجْلِسٍ وكانت هناك غيبة سكتّ أو قُمْت وفارقت أهل المجلس فأنت الآن تَتَوَسَّل أن يصْطَفِيَك الله عز وجل والله تعالى من أسْمائه المُصْطَفي يصْطَفي وإذا اِصْطَفى مؤمنا فهو في سلامٍ معه والمؤمن في سلام إذا كان قد اصْطفاه الله عز وجل لكن قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
(سورة العنكبوت)
لابد من الابْتِلاء.
أيها الإخوة الكِرام: اسْم المصْطَفي من أسماء الله الحُسنى وهذا الاسْم مُرْتَبِط أشدّ الارْتِباط بِالمؤمنين وكلما جهِدوا بِطاعَتِه والفَوْز بِرِضاه اصْطفاهم وكرَّمهم وأجْرى على أيديهم الخير والغِنى الحقيقي أن يجْعَلك الله مِفْتاحاً للخير مِغْلاقاً للشرِّ ؛
(( عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في بعض ما أنزل الله في الكتب: إني أنا الله لا إله إلا أنا، قدرت الخير والشر فطوبى لمن قدرت على يده الخير ويسرته له، وويل لمن قدرت على يده الشر ويسرته له.. إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، فويل لمن قال وكيف ))