الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الرؤوف

الرؤوف

 مع الدرس السابع والخمسين من دروس أسماء الله الحُسنى والاسم اليوم هو الرؤوف، فالرؤوف اسم ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلق بأسماء الله الحُسنى، فهو اسم من أسماء الله الحُسنى.
 الرؤوف في اللغة شديد الرحمة، والرأفة أشد من الرحمة، أو شدة الرحمة، ورأف به أي أشفق عليه من مكروه يحل به، والرأفة في اللغة نهاية الرحمة، والرأفة من الله دفع السوء.
 وقد يسأل سائل: فيقول من أسماء الله الحُسنى الرحيم، ومن أسماء الله الحُسنى الرؤوف فما الفرق بينهما ؟.
 إن حلّت المصيبة فإن الله سبحانه وتعالى رحيم بهذا الإنسان، أما رأفتهف تقتضي أن يبعد عنه كل سوء قبل أن تحل به المصيبة، وأحياناً فاسم الرؤوف متعلق بالوقاية، واسم الرحيم متعلق بالعلاج، والله سبحانه وتعالى لشدة رحمته رؤوف، ومن لوازم رأفته أنه يحمل العبد على التوبة قبل أن يقع في المعصية، وحينما يقع في المعصية يستوجب العقاب، والآن تقتضي رحمته أن يرفع عنه العقاب.
 الرأفة شدة الرحمة، وهي أشد من الرحمة، ورأف به أشفق عليه من مكروه يحل به، والرأفة نهاية الرحمة، والرأفة من الله دفع السوء، لذلك قيل، إن الرؤوف من أسماء الله هو المتعطف على المذنبين بالتوبة.
 لأضرب لكم مثلاً يقرب هذين المعنيين: الأب حريص على أولاده ولاسيما في أيام الشتاء من أن يصيبهم البرد، من ألا يخرجوا من بارد إلى حار أو من حار إلى بارد لئلا يصابوا بأمراض الشتاء، فالحرص البالغ من الأب على ألا يصاب ابنه بمرض هذا من الرأفة، أما حينما يصاب الابن بمرض ويتفطر قلب الأب له رحمة فهذا من باب الرحمة، فالرحمة تخفيف الألم عن مصاب واقع، بينما الرأفة هي الحيلولة بين المتعطف عليه وبين الوقوع في الشدة، فالرأفة متعلقة بالوقاية، بينما الرحمة فمتعلقة بالعلاج.
 وعلى كل فهذا التفريق هو تفريق لتقريب المعنيين، لكن أسماء الله تعالى كما قال الله عز وجل عن ذاته ولله الأسماء الحُسنى فأدعوه بها
 وتقريب آخر ؛ فالله عز وجل يحذر ويبين وينبه ويرسل المواعظ، ويسخر الدعاة، ويظهر الآيات لئلا تعصيه، فإن عصيته فلا بد من عقاب رادع والعقاب الرادع هو الرحمة، لأنه هو الذي يحملك على التوبة، لكن الله حريص على ألا تقع في المعصية وبالتالي ألا تستوجب هذه العقوبة، والآن لعلي وضحت هذا المعنى الدقيق، الرأفة قبل أن يقع المصاب، والرحمة بعد أن يقع المصاب، والله عز وجل أعطى الإنسان حرية الاختيار، فلو أن عبداً مؤمناً اختار عملاً سيئاً فالله جل جلاله يرسل له من يحذره ومن يبين له، ويقيم العقبات أمام عمله السوء، فإذا أصر الإنسان على عمله وتعلّقت نفسه به عندئذ يطلقه الله عز وجل، ويؤدبه، وبتأديبه يرحمه، فالرأفة فيها معنى الوقاية، والرحمة فيها معنى العلاج، والوقاية رأفة والعلاج رحمة، والله سبحانه وتعالى رؤوف رحيم.
 ولكن كل أب مثلاً يتمنى أن لا يقع ابنه في مخالفة تقتضي التأديب فإذا وقع في هذه المخالفة وأصر عليها فلابد من التأديب، والأب الطبيب يتمنى ألا يحتاج ابنه إلى عملية جراحية، أما إذا تفاقم أمر جسده إلى درجة يحتاج إليها فلا بد منها.
 فأن تأخذ الاحتياطات رأفة، وأن تخفف المصاب رحمة، لذلك قيل إن الرؤوف من أسماء الله تعالى وهو المتعطف على المذنبين بالتوبة وعلى أوليائه بالعصمة،و كنت أتمنى أن لا ينسب إلى أوليائه بالعصمة لأن العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعصمة للأنبياء والمرسلين، والحفظ للأولياء والمؤمنين، وفرق كبير بين العصمة وبين الحفظ، فالأنبياء جميعاً معصومون عن أن يخطئوا بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، بينما الأولياء فغير معصومين، لكنهم محفوظون، ومعنى أنهم محفوظون أي أنهم إذا أخطؤوا فسريعاً ما يتوبون ويستغفرون ويعودون ويتراجعون، فمن اعتقد العصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه ورسله الكرام فقد زاغت عقيدته، ومن لم يعتقد العصمة للنبي عليه الصلاة والسلام فقد زاغت عقيدته، وعقيدة أهل السنة والجماعة أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، وأن أمته معصومة بمجموعها، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لا تجتمع أمتي على خطأ ))
 والخطأ يصحح، ولذلك فالأمة معصومة بمجموعها، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده.
 ويرى بعض العلماء أن الرؤوف بمعنى الرحمة مع المبالغة، أي شدة الرحمة، والمبالغة بالرحمة هي الرأفة، وما زلنا في ضرب الأمثال ؛ فالأمهات جميعهن يعطفن على أولادهن، إلا أن هناك بعض النساء عندهن فرط رحمة بأولادهن، أي مبالغة، فالإمام القشيري يرى أن الرأفة شدة الرحمة، أي هي رحمة في أعلى مستوى.
 قال: " من رحمة الله بعباده أن يصونهم عن موجبات عقوبته "، لذلك فالله عز وجل يحذّر وينذر".
 وهناك نقطة دقيقة، فالله عز وجل أعطانا عقلاً وأعطانا فطرة وسخر لنا هذا الكون بسماواته وأرضه وأعطانا حرية الاختيار وأودع فينا الشهوات وأنزل على رسله البينات، والله عز وجل قدم كل شيء، فالكون مسخر تسخير تعريف وتكريم،والعقل متطابق في مبادئه مع الكون، فطرة سليمة تكشف لك الخطأ وحرية اختيار تثمن لك العمل، وشهوة تدفعك إلى الله صابراً أو شاكراً، وقوة فيما يبدو تعينك على تحقيق اختيارك،و شرع يعد ميزاناً على ميزاني العقل والفطرة، وانتهى الأمر، لكن الله فوق كل ذلك، فوق الكون الدال على وجوده وكماله ووحدانيته، وفوق العقل الذي هو أداة معرفة الله، وفوق الفطرة التي هي أداة كشف الخطأ، وفوق الاختيار الذي يثمن العمل، وفوق الشهوة التي تدفع إلى الله عز وجل، وفوق القوة التي تحقق بها الرغبات، وفوق الشرع الذي يُعد ميزاناً دقيقاً. فالله جل جلاله برأفته بعباده يتابعهم و يبين لهم، ويحذرهم، ينذرهم، ويجعل أفعاله مبينةً لشرعه، يعالجهم نفسياً، واجتماعياً، وجسدياً وأحياناً يسوق لهم المصائب، فيُلقي في قلوبهم الخوف و الطمأنينة إنه شديد المحال، وهذه كلها ليصون العبد عن أن يقع في الخطأ.
 والإنسان الواعي العاقل الموفق لا يقع في الخطأ ولا يحتاج بعدها إلى معالجة هذا الخطأ، وقد سأل معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين أحد دهاة العرب عمرو بن العاص من صحابة رسول الله ؛ قال يا عمرو ما بلغ من دهائك، قال: والله ما دخلت مُدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، فقال معاوية لست بداهية، أما أنا فو الله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه.
 الرأفة تعني ألا تقع في الخطأ، والرحمة تعني إن وقعت في الخطأ فلا بد من معالجته، فمعالجة الخطأ رحمة، والحيلولة دون الوقوع فيه رأفة، فالله سبحانه وتعالى رؤوف رحيم.
 وأنت مُخير فإذا اخترت السوء حال بينك وبينه، ونبهك، وأنذرك وحذرك وخوفك، وأرسل إليك من يدلك على الصواب، وأراك في المنام شيئاً مخيفاً، أما إذا أصررت على الخطأ فعندئذ يطلقك إليه ثم تأتي رحمته ورحمته كمبضع الجراح، ورأفته كالمعالجة الفيزيائية، والحمية والرياضة و هذه تحول بينك وبين المرض لكن رحمته تشفيك منه و قد تكون قاسية، فاسمها رحمة لكنها علاج، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾
(سورة لقمان)
 والنعم الظاهرة لا اختلاف فيها، لكن النعم الباطنة هي الشدائد التي يسوقها الله عز وجل للإنسان ليحمله على التوبة، وكم من إنسان اصطلح مع الله عز وجل إثر شدة باطنة، و خوف شديد، و مرض كبير، و ضائقة مالية خانقة، وعلى إثر هذه الشدائد تُحل العقد، ويصطلح الإنسان مع الله، فالحيلولة بين الإنسان وبين أن ينحرف رأفة، أما إذا أصر على الانحراف فمعالجته وهو منحرف رحمة، والله سبحانه وتعالى رؤوف رحيم.
 هناك طبيب ينصحك، ويبين لك مضار التدخين، ويعطيك الأدلة، ويطلعك على أحدث الأبحاث، ويبين لك آلية ضرر التدخين مثلاً، فإذا أصر المريض على متابعة هذه العادة السيئة وأصيب بمرض عضال فالطبيب نفسه جراح، يجري عملية جراحية، فإذا سمعت نصيحته فقد اتبعت اسم الرؤوف، وإن لم تستجب إلى نصيحته فأنت أمام اسم الرحيم، لذلك ورد في الحديث الشريف:
(( إني والأنس والجن في نبأ عظيم ؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ))
 إن تابوا فأنا رؤوف بهم، وإن لم يتوبوا فأنا رحيم بهم، الرأفة أن يحول بينك وبين الوقوع، لكن الرحمة أن يعالجك عند الوقوع، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها.. ذلك الله رب العالمين، حبيب وطبيب، حبيب إن اتبعنا منهجه، وطبيب إن حدنا عن منهجه.
 قال العلماء: " ومن رحمته بعباده أن يصونهم عن موجبات عقوبته، وأن يعصمهم عن الزلة "، وهذا أبلغ في باب الرحمن من غفران المعصية، فأن يحول بينك وبين المعصية أبلغ من أن يغفرها لك.
 وربما رحم عبداً بما يكون في الظاهر مشقة وشدة، ولكنه في الباطن نعمة ورحمة، ولذلك فالإمام ابن عطاء الله السكندري يقول: " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك ".
 ويا أيها الإخوة الأكارم حقيقة أضعها بين أيديكم فلقد قال العلماء: " الحزن يصنع، أما اليسر والغنى والشبع والترف فهذه لا تصنع شيئاً "، العبقريات تأتي من الفقراء غالباً، والأزمات أحياناً تولِّد تفوقاً، وتألقاً، إبداعاً، وابتكاراً، أما الرخاء والبحبوحة والطعام والشراب والأمن، فلا تولد شيئاً، و أحياناً يدفعك الخوف إلى باب الله.. وأحياناً تسوق الشدائد الناس إلى باب الله عز وجل، وتسمو و ترقى بهم.
 ولذلك فالمجتمعات التي تنعم بالرخاء الكبير، تجده حجاباً بينها وبين الله، والمجتمعات التي تعاني ما تعاني، فهذه المعاناة لعلها سَوق من الله عز وجل الرؤوف إلى بابه، لا تقل أنا أعاني من مشكلات، والله الذي لا إله إلا هو، وأنا أقسم بهذا، لو أن الإنسان كشف الله له يوم القيامة عن حكمة المصائب التي ساقها إليه، فلابد من أن يذوب حباً لله عز وجل، فأفعال الله مدهشة.
 وفي جامع النابلسي، انتهى الدرس فاقترب مني شاب، وقال: أريد أن ألتقي معك على انفراد، قلت مرحباً بك، فأخذته إلى البيت، فقال: لي بالحرف الواحد، أنا إنسان أعمل في صنعة، وصاحب هذه الحرفة ينكر وجود الله عز وجل، وكنت عنده صغيراً، وأقنعني أن هذا الكون ليس له خالق، وافعل ما تشاء، وقال لي: والله يا أستاذ، ما من معصية تخطر على بالك إلا فعلتها إلا القتل، وأنا في بحبوحة، والمال وفير، وعندي محل لتأجير أفلام منحطة، ويدر علي مبالغ طائلة، ونحن في أوج نشوتنا بهذا الدخل الوفير، وهذا التفلّت من منهج الله، واللقاءات التي لا ترضي الله، والسفر بنية المعاصي، والقصة طويلة..... حل به وبشريكه مصاب جلل، ذكر لي أن هذا المصاب من باب التقريب كأن مطرقة أضرب بها على رأسي، حتى إن رأسي تهشم، وقال: لا مال، بل مرض أنا وزوجتي وأولادي، وأنا أقول هذا الكون ليس له خالق، إلى أن دخلت المسجد أول مرة في حياتي، وصليت وأنا أبكي واصطلحت مع الله عقب هذه المصيبة، وكانت هذه المصيبة سبب توبتي،وقد ذكرت لكم مقتطفات من هذه القصة، وحينما خرج والله الذي لا إله إلا هو قلت: يا رب ما أشد رحمتك بهذا الإنسان، فلو أنك تركته على حاله يأكل ويشرب ويتنعم وينغمس في الموبقات إلى أن جاءه الأجل فاستحق جهنم إلى أبد الآبدين.
 أخ كريم آخر حدثني عن قصة ورجاني أن أرويها لكم، درس في فرنسا، وعاش مجتمع التفلت، فلما قدم إلى بلده، قال جعلت من بيتي ملهى، كل الموبقات في البيت، وأنا أعتقد أن الحياة هكذا.
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى(40)﴾
(سورة القيامة)
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
(سورة المؤمنون)
 قال لي فجأةً أصبت بمرض عضال، كل شيء أمامي يهتز وفقدت التوازن والتوافق الحركي، عشرون محاولة كي أمسك بكأس عشرون محاولة كي أمسك الملعقة،إنه عدم التوافق الحركي، وعدم التوازن والأشياء كلها تتحرك وترتجف، وقال لي: لقد التقيت بسبعة وثلاثين طبيباً في دمشق، وكلهم عجز عن معرفة هذا المرض، ثم ذهبت إلى بلد غربي، فقال لي الأطباء: إن هذا المرض يصيب الناس بنسبة واحد على ثلاثة عشر مليوناً، وجاؤوا بطبيب يُعد الأول في العالم في هذا المرض فبقي يعالجني ستة أشهر، ثم قال لي: أنا أعلم الأطباء بهذا المرض، وليس لك علاج إطلاقاً، فعد إلى بلدك أو اذهب إلى الهند فالتق ببعض البوذيين لعلك تألف هذا المرض، وانتهى الأمر.. عاد إلى الشام، وله قريب جلبه إلى بعض الدروس، حيث كنا في الحاجبية وقتها، وهو في الدرس قال: يا رب إن شفيتني لأصلينَّ، وفي الدرس الثاني قلت: في سياق الحديث، إن الله لا يُجرَّب ولا يشارط، فقال من توه والله يا رب لأصلين، وأول مرة يصلي بحياته في الدرس الثاني، أما حالته المرضية فلا تُطاق، وكل شيء أمامه يترك، اضطراباً في الصورة، وعدم توافق حركي ويقسم بالله العظيم أنه عاد إلى البيت وفجأةً ثبتت الصورة أمامه، ومن شدة فرحه اختل توازنه وصاح، ثم قام ليقف فوقع، فأمسك الكأس فوقع، أما الصورة فقد ثبتت، وبعد حين عاد له التوافق الحركي، والتوازن وهذا الإنسان هو الآن من طلاب العلم، ومن رواد المساجد ‍! لقد اصطلح مع الله، وتاب توبةً نصوحاً.. ويقول لولا هذا المرض..لجعلت بيتي باراً، وجعلته كالنادي الليلي، وكل المعاصي أقترفها.
 فربنا عز وجل عندما يصر الإنسان على المعصية رحيم، لكن الله حريص علينا ألا نقع، وحرصه ألا نقع رأفة منه، ومعالجتنا بدواء مر بعد أن نقع رحمة بنا، فهو رؤوف ورحيم.
 وفي أكثر من أربعين آية:
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
(سورة البقرة الآية 143)
 كما تريد.. إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم.. لكن هنيئاً لمن استجاب لرأفته ونال عطاءه قبل أن تدركه المصيبة.
 وقد سألني أحدهم مازحاً ما فحوى هذه الدروس التي تُلقيها من عشرين عاماً في هذه المساجد، فأردت أن أداعبه، فقلت له باللغة الدارجة " إما أن تأتيه ركضاً وإما أن يجلبك ركضاً، فاختر واحدة من الاثنتين ".
 وأنا والله أرى من الشرف بالإنسان ومن الذكاء والتوفيق أن يأتيه طوعاً، وهو صحيح و معافى، وسليم، و آمن، وغني، وشاب، لا أن يأتيه قهراً وقسراً على أثر مصيبة طاحنة والله عز وجل علاجه مرٌّ:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
(سورة البروج)
 وأحياناً يحمّل الإنسان ما لا طاقة له به، فقد ذكر لي رجل: أنه أصيب بمرضين، مرض عضال في الجهاز الهضمي، ومثله في القلب، والشيء الذي لا يُحتمل أن أدوية القلب تؤذي جهاز الهضم وأن أدوية جهاز الهضم تؤذي القلب، ولذلك اجتمع الأطباء وقالوا: لا تأخذ أي دواء:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
(سورة البقرة)
 و أحياناً فقر وقهر ومرض وجوع معاً، فكلما كان الانحراف أشد كان العلاج مراً أكثر، والمؤمن يفهم على الله بالإشارة.
ورجل أساء إساءة، وهو يتوقع من الله العقاب فانتظر أياماً ما حدث شيء، فصحته وبيته و أولاده، كلها على ما يرام، ففي الصلاة ناجى ربه، وقال يا رب قد عصيتك فلم تعاقبني، ووقع في قلبه أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر ألم أحرمك لذة مناجاتي.
 هذه الصلة هي روحية، يحرص عليها حرصه على روحه، فإذا انقطعت يُعد هذا أكبر عقاب له، الإنسان المستقيم المصطلح مع الله التائب إليه له منه مدد، وله سكينة، له ونور يقذفه في قلبه، وطمأنينة، إنه متوازن، في ظل الله ورحمته، وحفظه، وتوفيقه، وتأييده، و دعمه في الدفاع عنه، فإذا خرق الاستقامة خرج من مظلة الله، وحفظه فيُعامل كما يُعامل عامة الناس، أما وأنت مستقيم فلك معاملة خاصة، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾
(سورة النساء)
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾
(سورة الحج)
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
(سورة الروم)
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
(سورة آل عمران)
 ومن رحمته بك أن يصونك عن ملاحظة الأغيار، فلا ترفع حوائجك إلا إليه، والله عز وجل إن رأى عبداً تعلق بعبد مثله فمن رحمته بهذا العبد أن يصونه عن الشرك، ولذلك فالذي تعلقت به يخيب ظنك دائماً والله يغار عليك أن تتجه إلى غيره وهو فقير، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، و الله وحده هو الذي يملك فلذلك من رحمته أن يصونك عن ملاحظة الأغيار، فلا ترفع حوائجك إلا إلى الواحد القهار.
 قيل لبعضهم: سل حاجتك، فقال من وضع قدمه على بساط المعرفة لا يحسن به أن يكون لغير الله عليه منة.
 و أحد خلفاء بني أمية كان في الحرم المكي يطوف فالتقى بأحد كبار العلماء وأراد هذا الخليفة أن يتقرب من هذا العالم، فقال: سلني حاجتك قال: والله إني أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج التقى به خارج الحرم، فقال: سلني حاجتك، قال: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها، فلما أصر عليه، قال: حاجتي أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة، قال: هذه ليست لي، قال: إذاً ليس لي عندك حاجة، فهذه حاجتي الوحيدة.
 وقيل لبعض الصالحين: ألك حاجة، فقال: لا حاجة بي إلى من لا يعلم حاجتي لأن الذي يعلم حاجتي هو الله، يعلمها دون أن أسأله، قال سيدنا جبريل لإبراهيم الخليل: ألك حاجة، قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي.
 فالرؤوف: هو الذي جاد بلطفه، ومنَّ بتعطفه، والرؤوف هو المتعطف على المذنبين بالتوبة وعلى الأولياء بالحفظ، وهو الذي صان أولياءه عن ملاحظة الأشكال وكفاهم بفضله مؤونة الأشغال، وقيل هو الذي ستر ما رأى من العيوب ثم عفا عما ستر من الذنوب.
 والإمام الرازي رحمه الله تعالى يفرق بين اسم الرؤوف واسم الرحيم، فيقول: واعلم أنه تعالى قدم الرؤوف على الرحيم والرأفة على الرحمة في الآيات التي تلوناها، وهذا يقتضي وقوع الفرق بينهما، وأيضاً أينما ذكر الله تعالى هذين الوصفين قدم الرأفة على الرحمة، فلابد من بيان الفرق بين الوصفين، والفرق هو أن الرحيم في الشاهد إنما يحصل لمعنى في المرحوم من فاقة وضعف وحاجة، والرأفة تطلق عندما تحصل الرحمة في الفاعل من شفقة على المرحوم.
 والمعنى دقيق سأشرحه لكم ؛ فالباعث في الرحمة هو المرحوم، وأما الباعث بالرأفة فهو الراحم، والمرحوم هو الإنسان إذا وقع في مصاب شديد يقتضي المصاب أن يحتاج إلى الرحمة، فالله رحيم أما هذا المخلوق قبل أن يُصاب فمن كمال الله عز وجل، حرصه على سلامته، وهذا الحرص يقتضي الرأفة، فالانطلاق في الرأفة من الله، وفي الرحمة من العبد، وهذا هو الفرق.
 فمنشأ الرأفة كمال حال الفاعل في إيصال الإحسان، ومنشأ الرحمة كمال حال المرحوم في الاحتياج للإحسان، فالإنسان إذا احتاج إلى الرحمة فالله رحيم، وأما ربنا عز وجل فلأنه منزه ولأنه كامل يحول بين عبده وبين أن يقع في السوء، فالرأفة من الله والرحمة بسبب مصيبة ألمت بالعبد.
 والرأفة والرحمة وردت في كتاب الله في أربعين موضعاً:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) ﴾
(سورة البقرة)
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ﴾
(سورة البقرة الآية207)
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) ﴾
(سورة آل عمران)
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)﴾
(سورة التوبة)
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)﴾
(سورة النحل)
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)﴾
(سورة الحج)
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)﴾
(سورة النور)
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)﴾
(سورة الحديد)
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾
(سورة الحشر)
 والملاحظ أن هذين الاسمين وردا معاً لأنهما من طبيعة واحدة، فواحد وقائي وواحد علاجي، والأول أشد والثاني أقل.
والآن ما الأدب الذي ينبغي أن نتأدب به مع اسم الرؤوف ؟:
 أولا: ينبغي أن نكثر من ذكر هذا الاسم كي نحب الله عز وجل لأن الله أسماؤه حُسنى، وصفاته فُضلى، وكلما ذكرنا أسماءه الحُسنى مال القلب إليه واشتاق العبد إلى لقياه فمن الأدب أن نكثر من ذكر هذا الاسم.
 والشيء الثاني: أن نتخلّق بأخلاق الله فنحول بين الناس وبين أن يعصوا ربهم، ونستخدم الأسلوب الوقائي لا العلاجي، وأقرب شيء الأولاد، فقبل أن يقع الابن في مشكلة ويمد الأب يده لينقذه هناك شيء أهم من ذلك، أن تحول بينه وبين أن يقع في هذه المشكلة، فالتربية الوقائية هي التخلق بأخلاق الله عز وجل، فبين أن تربي ابنك تربية علاجية وبين أن تربيه تربية وقائية، هناك فرق بين الرأفة والرحمة، لذلك تخلّق بأخلاق الرؤوف وحل بين الناس وبين أن يقعوا في مشكلة.
 وافرض أنك صاحب محل وعندك موظف، وأمورك مسيبة فالدرج ليس له قفل، وأنت لا تدقق، وعندما لاحظ الموظف أنه لا يوجد تدقيق وهناك تسيب، سولت له نفسه أن يسرق فلما سرق وتابع في السرقة كشفت السرقة، وتريد أن تنكل به عندئذ، تريد أن تذيقه الأمرين، و أن تفضحه، وأن تشتكي عليه، وأنت الذي ورطته، فالآن تريد أن تعالجه، وكان الأولى بك أن تحول بينه وبين هذه المعصية، وأن يشعر أن الأمور عندك مضبوطة، حسابات دقيقة، وصندوق يومي، ومبيعات مسجلة وحينما تضبط الأمور تحول بين الناس وبين أن يأكلوا مالاً حراماً فأنت بهذا رؤوف، أما عندما ورطته وفضحته حطمته وانتهى الأمر.
 هناك إنسان يهمل زوجته و لا يقوم بواجبه تجاهها، إذ يغيب عن البيت عشرين ساعة، ثم يكتشف أنها خانته، و أنها منحرفة الأخلاق، وعندئذ يريد أن يفعل بها الأفاعيل، لا.. أنت لم تكن رؤوفاً بها، بل سيبت الأمور وأهملت تربيتها حتى وقعت فيما وقعت به، فحطمتها، والتطبيق العملي.. أن تتخلق بأخلاق الله، حُلْ بين الناس وبين أن يقعوا في المعصية، وأن يفسدوا وهذا من أدب الإنسان مع اسم الرؤوف، والله عز وجل، جعلك خليفته في الأرض، لتتخلق بأخلاقه.
 والقاعدة أن ؛ الإنسان إذا سرق.. فالسرقة جريمة،و الحديث لا أذكر نصه الحرفي، هذا الذي يعين الناس على أن يسرقوا لغفلته وعدم انضباطه ليس أقل إثماً منهم، إثمه كإثمهم، لأن أموره غير مضبوطة.
فإذا اتفقت مع شريك بلا عقد ولا تسجيل ولا توثيق، فهذا الشريك سولت له نفسه أن يجعلك خارج المحل، فسجل المحل باسمه، وارتكب جريمة الغدر، التي كنت السبب فيها، فلو قيدته بعقد أصولي، موثق في الجهات الرسمية، لما سولت له نفسه أن يغدر بك فأنت حينما تحول بين الناس وبين أن يقعوا في المعاصي تكون قد تخلّقت باسم الرؤوف.
(( فتخلقوا بأخلاق الله ))
 فأنت مع أولادك، و طلابك، أو مع صانع في المحل تزيل الحدود بينك وبينه فيتطاول عليك، فيطرده، فلولا أنك رفعت الحجاب وجرأته عليك، لما اجترأ و لو أبقيته في مكانه وأبقيت نفسك في مكانك لما احتجت أن تطرده وتوقع به الضرر.
 فالذي يحول بين الناس وبين أن يسقطوا يتخلق بأخلاق الله، إذاً حل بين الناس وبين أن يسقطوا، واضبط الأمور، ودقق.
 و تشتري من عند بائع، فتأتي آخر الشهر، فتسأله كم الحساب فيقول: ثلاثة آلاف، فتدفعها دون أن تدقق، وفي الشهر الثاني لا تدقق ولا تقول: أرني الحساب، فسولت له نفسه فضاعف المبالغ، فمن الذي حمله على السرقة ؟ أنت ‍! فلو أردت أن تحول بين الناس وبين أن يقعوا في المعاصي فتخلق بأخلاق الرؤوف.
 و الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بلغه أن رجلاً وراء النهر يروي أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحل إليه ولما ورد عليه وجده يطعم كلباً، فسلم عليه، فرد الرجل السلام ثم اشتغل بإطعام الكلب، ولم يلتفت إليه، حتى انتهى فقال: لعلك وجدت في نفسك إذ أقبلتُ على الكلب ولم أقبل عليك، قال الإمام أحمد: نعم، فقال الرجل:
(( حدثني أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة ))
 ثم قال الرجل: وأرضنا هذه ليس فيها كلاب، وقد قصدني هذا فخفت أن أقطع رجاءه، فقال الإمام أحمد يكفيني هذا الحديث..
 وقد ورد في بعض الأدعية ؛ اللهم أنت الرؤوف وقد انجذبت إليك القلوب بحسن العواطف وأنت الرحيم أحاطت رحمتك بالطائع والمخالف أشرق على قلبي بنور الرؤوف الحنان واجعلني أعطف على جميع بني الإنسان، فأستغفر للمذنبين، وأحب الهدى للكافرين، وأتمنى التوبة للعاصين، وأطلب الوسعة للمحتاجين، فأنال قسطاً وافراً من ميراث سيد المرسلين عليه أتم الصلاة والتسليم إنك على كل شيء قدير.
 أيها الإخوة، هذه الدروس دروس أسماء الله الحُسنى لها هدفان كبيران، الأول أن تعرف الله، والثاني أن تتخلق بأخلاقه، الأول أن تعظمه، والثاني أن تسمو إليه، الأول أن تعرفه والثاني أن تكون كاملاً، متخلقاً بهذه الأسماء حتى تستحق جنة الله عز وجل