الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الضار النافع

الضار النافع


 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللّهم لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللّهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصّالحين.
 أيّها الإخوة الكرام: مع الدرس الواحد والأربعين من دروس أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم ؛ الضار النافع. الضار النافع: اسمان من أسماء الله الحسنى. دققوا في كلمة الحُسنى ؛ ولله الأسماء الحُسنى ؛ فالضار من أسماء الله الحُسنى، والمانع من الأسماء الحسنى، والقابض من الأسماء الحسنى، والمُذل من الأسماء الحسنى، وكُلُ أسماء الله حُسنى؛ ولكن قد يبدو للإنسان أحياناً أن الضُرَّ يؤْلمه، وهو كالدواء تماماً؛ طعمه مُر وعاقبته محمودة.
 أيها الإخوة الكرام: هناك توجيه لبعض العلماء، وهو أن تبقى هذه الأسماء مزدوجة، وأن تُدرّس معاً ؛ فلا تقول: الضار وحده ؛ قُل الضار النافع، والقابض الباسط، والمُعز المُذل، والمُعطي المانع، وهذا لسبب بسيط وهو أنه تعالى يضر لِينفع، ويذل ليعز، ويمنع ليعطي، ويخفض لِيرفع، ويقبض لِيبسط، لو كُشف الغطاء لهذا الإنسان - والله الذي لا إله إلا هو - الذي ساق الله له من الشدائد ما ساق، لَذاب كما تذوب الشمعة إذا أُشعِل فتيلها، حُباً في الله عزّ وجل. ولو عُرفت حكمة الشدائد التي يسوقها الله لِعِباده، لَذاب الإنسان حباً وخجلاً من الله عز وجل، كما تذوب الشمعة إذا أُشعل فتيلها.
 لذلك يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه: والله لو كُشِف الغطاء، ما ازددت يقيناً. وهذا الإيمان وهذا الشعور هو أحد أكبر الأسباب سعادة الإنسان ؛
هم الأحبة إن  جاروا وإن عدلوا
فليس لي معدِلٌ  عنهم وإن عَدَلُو
وإن فتَّتوا في حبهم  كبدي وإن عدلوا

باقٍ على عهدهم  راضٍ بما فعلوا
***
 شعور الرضا أيها الإخوة لا يوصَف ؛ أن ترضى عن الله. يطوف أحدهم حول الكعبة ويقول: يا رب، هل أنت راضٍ عني ؟ وكان وراءه الإمام الشافعي فقال: يا هذا وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ وقف والتَفَت وراءه وقال: من أنت يَرْحمك الله ؟ كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه ؟ فقال الإمام الشافعي: إذا كان سرورك بالنِّقمة كَسرورك بالنعمة، فأنت راضٍ عن الله.
 لا تُصدِّق أن يكون الامتحان في الرخاء ؛ إنما الامتحان في الشِدّة. ولا يظهر إيمانك إلا في الشِدّة، ولا ترقى عند الله إلا في الشِدّة، لذلك المؤمن يُوَطِّن نفسه على أن يُمتحَن. وقد سُئل الإمام الشافعي ؛ أندعوا الله بالابتلاء أم بالتمكين ؟ فقال: لن تُمكن قبل أن تُبتَلى، قال تعالى:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
( سورة آل عمران: الآية 179 )
 فأكثر المراجع الدينية، ترى أن هذه الأسماء المزدوجة ؛ ينبغي أن تذكر معاً ؛ الضار النافع لسبب بسيط، وهو أنه تعالى يضُر لِيَنفع.
 في سورة القلم قِصة أصحاب الجنة: قال تعالى:
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾
﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)﴾
( سورة القلم: الآية 17 ـ 33 )
 فأصبحت كالصريم انتهت. يعني أصابها الصقيع.
﴿ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِين ﴾
 القصة طويلة.
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴾
 ليس هذا بستاننا، فلما تأكدوا منه قالوا:
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾
﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ﴾
 لِضَعف إيمانكم بالله بَخِلتم ؛ فلما بَخِلتم عوقِبتم.
﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾
 انتهت القِصة، والآن إلى التعقيب: قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
 أيْ أنه ؛ أيُّ عذاب أسوقه للعباد ؛ فَمن أجل هذا، ومن أجل أن أردهم إليّ، ومن أجل أن أحملهم على الصواب، ومن أجل أن أحملهم على التوبة.
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
 والمؤمن الصادق يعتَقِد اعتقاداً راسخاً أن كُلَّ شِدَّة وراءها شَدَّة إلى الله، وأن كل مِحنة، وراءها مِنحة وأن كُلَّ شيء وقع أراده الله، وأن كل ما أراده الله وقع، وأن كل ما أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحِكمة المُطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلِّقة بالخير المطلق. ومعنى الحِكمة المُطلقة ؛ أن الذي وقع لو لم يقع، لكان الله ملوماً ؛ ولكان عدم وقوع الذي لم يقَع نَقْصاً في حكمة الله عز وجل.
 لذلك هناك من يقول: لِكل واقِعٍ حكمة، فبِما أن هذا الشيء وقع؛ فَمن وراءه حِكمة ما بعدها حِكمة، ولو أن الذي أوقعه كان أحمقاً، ولو أن الذي أوقَعَه لم يكن حكيماً، ولو أن الذي أوقعه كان شريراً، ولو أن الذي أوقعه كان جاهلاً ؛ لِكلِّ واقعٍ حِكمة، لأنه لا يُمكن أن يقع في كَون الله إلا ما أراده الله، وإرادته متعلِّقة بالحكمة المطلقة، هذه الفكرة وحدها، يُمكن أن تنفِيَ عن الإنسان كل أمراضه النفسية. يعني إذا كان هناك صحة نفسية ففي عالم الإيمان الآن. علاقتك مع الرحمن الرحيم، مع الحكيم، ومع العليم، ومع العادل، علاقتك مع ربٍ كريم، بيده كل شيء، ويعلم كل شيء، لا تخفى عليه خافية.
 الإمام الغزالي والإمام الرازي والإمام القُشيري يقولون: " اعلم أن الجمع بين هذين الاسمين أولى وأبلغ في الوصف بالقدرة على ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا نافع ولا ضار غيره ".
 دققوا معي الآن ؛ متى يُنافق الإنسان ؟ متى يُرائي ؟ ومتى يخاف ؟ ومتى ينهار ؟ ومتى يَخْنع ؟ ومتى يقبل الضيم ؟ إذا شعر أن إنساناً يمكن أن ينفعه، أو يمكن أن يضره، أمّا إذا أيقن أنه لا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، رفع رأسه وقال: لا وذلك بِملء فمِه، واعتقد أن الله لن يسلمه، ولن يتخلى عنه، وأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرِّب أجلاً. كل أسباب القوة والمنعة، وكل أسباب العزة والجُرأة، بسبب أن تؤمن أنه لا نافع، ولا ضار، إلا الله، ألا يكفيك قوله تعالى:
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
( سورة فاطر )
 هذه الآية وحدها تكفي، ألا يكفيك حديث رسول الله الذي روي:
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))
(رواه الترمذي)
 هكذا الإيمان.
 يقول علماء اللغة: " إن الضُر ضد النفع "، والله جل جلاله هو الضار ؛ لكن لا ينبغي أن يغيب عن ذهنك كيف، أن الأب الجرّاح يُمسك بالمِبضَع، ويفتح البطن، ويخرج الدم، ويربط الأوعية، ويأتي إلى هذه الزائدة -التي جعلته يخرج من جلده -ويقطعها ويستأصلها، ثم يُضَمِّد الجِراح. أب طبيب جراح مُفعم قلبه بالرحمة، وممتلىء عقله بالعِلم، أُصيب وابنه بالتهاب الزائدة، ماذا يفعل معه ؟ يستأصلها ؛ استِئصالها مُؤلم، فهناك فتح بطنٍ وتخدير، وبعد انتهاء المخدر هناك آلام، لكن هذا الأب يفعل هذا لِصالح ابنه. لا يمكن أن نفهم الضر من الله إلا هكذا، وأيُّ فهمٍ آخر يُعَد كفراً وإلحاداً في أسماء الله عز وجل لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
(سورة الأعراف)
 لذلك المؤمن مستسلم وصابر لِحكم الله. وحينما يصبر المؤمن لِحكم الله عز وجل فإن الله جل جلاله يتجلّى على قلبه بالسكينة. فالله سبحانه وتعالى يُفقر ؛ وقد يكون الإفقار هو عَيْن العطاء. والله سبحانه وتعالى يُمرض ؛ وقد يكون في المرض الصِّحة النفسية التامة. والله سبحانه وتعالى يُخيف ؛ وقد يكون في الخوف الالتجاء إلى الله عز وجل. والله حكيم يعلم كيف يُداوي، و المكان الذي يُؤلم، ويعلم ما الذي يحمل عبده على التوبة.
 أنا أعرف رجلاً مُتَفلِّتاً تفلتاً كاملاً من منهج الله، وعقيدتُه فاسدة، ويستهزىء بالدين، ولا يُطبق شيئاً من أوامر الله عز وجل. وزوجته كذلك. أصيبت ابنته بِمرض عُضال وخبيث في دَمها، فقام ولم يقعد، وأنفق كل ممتلكاته، واضُطرَّ إلى بيع بيته، وأخذها إلى بلاد غربية ليعالجها لأنه متعلّق بها تعلقاً شديداً، ثم جاءه خاطر، والأَوْلَى أنه إلهام من المَلَك، أَنْ يا فلان لو أنك تُبت إلى الله أنت وزوجتك، لشفاها الله، فهذا الخاطر حمله على أن يتوب؛ فحَجَّب زوجته، وبدأ يصلي، وحضر مجالس العِلم فشفا الله ابنته. وبعد سنوات عِدة - هو زميل لي في العمل - زارني لِمَركز عملي ودعاني لِحضور عَقْد قِران، فقلت له مُداعِباً: هي هي فقال: هي هي، هي التي مَرِضت وردَّت أباها وأمها إلى الله، هذا المرض كالضيف؛ جاء فَحَمل أباها وأُمها على التوبة، ثم انسحب.
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
 لا يمكن أن نفهم عذاب الله إلا بهذه الطريقة، العذاب ضيف، ولكنه ضيف مؤلم، يدخل ويخرج وقد حَمَلَ الإنسانَ على التوبة. لكن المصائب أنواع - وهذا الذي ذكرته في دروس سابقة - فهناك مصيبة قَصم، وهناك مصيبة ردْع، وهناك مصيبة دفْع، وهناك مصيبة رفع، وهناك مصيبة كشف. الأنبياء إذا ساق الله لهم المصائب، فلِكَشف حقائقهم التي تفوَّهوا بها. والمؤمنون إذا ساق الله لهم المصائب، فَلِدفْعهم إلى بابه، أو لِرفعهم إلى جنابه. أما الكفار إذا ساق الله لهم المصائب، فإما قصماً إنهاءً لِحياتهم، وإما ردْعاً إذا كان فيهم بقية خير ؛ فالقصم والردع للكفار، والدفع والرفع للمؤمنين، والكشف للأنبياء، ولكل مصيبة حِكمة ما بعدها حِكمة.
 في بعض الأدعية: إلهي، أنت الضار توقِع الضر والآلام لأهل الشرك والفجار، وأنت العدل في إضرارك، وكلهم كالمرضى في حكمك، فتداويهم حكمتك، وتوجِد من الضر النفع.
 لو دققت النظر في أب أهمل ابنه، يأكل كما يريد، وينام إلى أي وقت يريد، ولا يدرس، ويُصاحب رفقاء السوء، هذا الابن سيكون في مؤخرة الركب. الأب الشديد الذي حمل ابنه على الدراسة، وضبط سلوكه، وقسا عليه ؛ أحياناً هذا الابن سيكون شخصيَّة لامعة في المجتمع. هذا الابن لو رأى نفسه في أعلى مقام، ومكانة اجتماعية، ويحمل دكتوراه، وله بيت وزوجة، معززٌ ومكرّم، ألا يدعو لأبيه طوال حياته ؟ ألا يقول جزى الله عني أبي كل خير ؟ لولا شِدتُه لما كُنت هكذا. لذلك أيّ إنسان على الإطلاق، يُلخص علاقته بالله كلها يوم القيامة بِكلمة: الحمد لله رب العالمين. قال تعالى:
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾
(سورة يونس)
 يُروى: أنّ سيدنا العباس كان مقيماً في مكة، وكان قد أسلم سِراً، وبَقي عين -النبي صلى الله عليه وسلم - تروي بعض كتب السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أمر أصحابه ألا يقتلوا عمَّه العباس، ثم إن الحقيقة انكشفت، بعضهم ظن أن النبي من باب التعصب ينهى أن يُقْتَلَ عمُّه؛ لكن- النبي صلى الله عليه وسلم -يعلم أن عمه قد أسلم، ويعلم أيضاً أنه إذا ذكره كُشف أمرُه، وإذا لم يُشارك عمه في القتل كشِف أمرُه. لذلك أساء أحد الصحابة الظن بعض الصحابة الظن برسول الله -عليه الصلاة والسلام - وقال أحدهم: ينهانا عن قتل عمِّه، وأحدنا يقتل أباه وأخاه. ثم لما كُشفت الحقيقة قال: بقيت أتصدق عشر سنين لعل الله يغفر لي سوء ظني برسول الله- صلى الله عليه وسلم - فالإنسان إذا توهم أن الله يسوق الشدائد تَشَفِّياً ؛ فالله أسماؤه حُسنى قال تعالى:
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)﴾
(سورة إبراهيم)
 ولكن يقول الله عز وجل:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)﴾
(سورة النساء)
 دعا بعضهم فقال: يا رب امنحني عيون التوحيد، حتى لا أطلب دفع الضر إلا من جنابك.
 وبعض الأدعية تقول: اللهم صُن وجوهنا باليسار - بالغنى - ولا تبذلها بالإقتار ؛ فنسأل شر خلقك، ونُبتلى بِحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ؛ فامنحنا اللهم عيون التوحيد حتى لا نطلب دفع الضر إلا من جنابك، ولا نقف إلا عند أعتابك، أنت على كل شيء قدير.
 الإنسان عندما يتضعضع أمام إنسان لِيتلافى الضر، فقد أشرك. وحينما يمتلىء قلبه حباً لِفلان لأن خيراً أصابه منه، فقد أشرك. والبطولة أن لا تعتقد أن أحداً في الكون بِإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك ؛ الله هو الضار النافع.
 النافع لا يقتصر على الدنيا وإنما على الدنيا، والآخرة ؛ فالذي يمنح الصحة هو النافع والذي يمنحك الغنى والسعادة والحياة والهداية والتقوى هو النافع، وهو الذي أوصل كل هذه النعم إلى خلقه، ووصل نِعَمَ الدنيا بِنعَمَ الآخرة ؛ فالنافع يشمل منافع الدنيا، ومنافع الآخرة. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم:
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا...))
 معنى ذلك أن الدنيا تُكمل الآخرة، والآخرة تكمل الدنيا. والمؤمن يطلب حسنة الدنيا والآخرة، من أكثر الأدعية التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم:
((عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمّ:َ ﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ))
(رواه البخاري ومسلم)
 ما الذي يمنع أن تسأل الله حسنة الدنيا وحسنة الآخرة ؟
 وفي بعض الأنوار القدسية في الأدعية: إلهي أنت النافع لِجميع العوالم، وأنت بالجميع راحم.
 والإنسان عندما يستقيم على منهج الله، يهده الله سُبُلَ السلام. فسُبحانه لا يُرضيه أن يُعذِّبك. تصوّر حالة أبٍ، له ابن يحبُّه حباً لا يوصف، ووجد معه خمساً وعشرين ليرة، فيقول له: من أين لك هذه ؛ فيقول: أخذتها من رفيقي وهو لا يدري، هذا الأب العاقل ألا يجد نفسه مضطراً إلى أن يؤدِّب ابنه ؟ أنا والله أعتقد أن الأب الرحيم حينما يؤدب ابنه، يتألم عشرة أضعاف آلام ابنه، ومع ذلك فلا بد من إيقاع الضرب فيه، أو التجربة المؤلمة. فالإنسان الرحيم يرى من الضرورة أن يوقع في الذي يحبه ألَماً رادعاً، لا أدري من منكم ذاق هذه التجربة، وهو أن يضرب ابنه ويتألم أشد من أَلَمِ ابنه لرحمة. فالله عز وجل لا يُرضيه أن يُذِلَّك، ولا يرضيه أن يُفقِرك لا يرضيه أن يحبِس حرِّيتك، ولا يُرضيه أن يُمرضك، وأن تكون في مؤخِّرة الركب. الإذلال، والإفقار، وحبْس الحرية، والخوف، والهم، والحزن ؛ هذه لا تُرضي الله عز وجل ؛ لأن الله " حيِي كريم يستحي من عبده إذا بسط إليه يديه أن يردهما فارغتين ".
 لكنَّ الله سبحانه وتعالى لحكمته البالغة، لا بد أن يسوق لعَبده العاصي بعض الشدائد. زارني رجل عَقِب درس من دروس الأحد وقال لي: أريد أن ألتقيك، وقال لي بالحرف الواحد: أنا يا أستاذ تربيت عند رجل مُلحد، وذلك أنه كان يشتغل عنده. فكان يقول له: ليس هناك إله، وليس هناك آخرة، وافعل ما تشاء. وبِناءً على كلامه: ما من معصية تَعرفها إلا فعلتها، عدا القتل فما قَتل، أما ما سوى ذلك فقد مارس كل شيء ! والأموال بين يديَّ كثيرة، واللذائذ وفيرة، والمباهج كثيرة، وأنا منغمس في كل المعاصي والآثام إلى قِمة رأسي ؛ قصة طويلة جداً ولكن أسوق لكم ملخَّصها: قال لي فجأة سُحب البِساط من تحت قدميّ، خُتم المحَل، أودع شريكي في السجن بِتُهمة كبيرة جداً. وانقطع دخْلي فجأةً، وعليّ ديون كنت أسدها من دخْل المحل، وكُشِف أمري، فاضطررت أن أعمل عملاً دون مكانتي بكثير، كي أُؤمن طعام يومي، وساق الله إلي الأمراض والشدائد، وقد وصف لي حالته وكأن مطرقة على رأسه وقال لي: والله لا أملك ثمن الدواء، ولا ثمن الطعام، وأذلني الله ذُلاً شديداً، ودخلت المسجد أول مرة بحياتي كي أُصلي، و تُبت إلى الله، واصطلحت معه. والله بعدما خرج دمِعت عيناي وقلت: يا رب ما أحكمك وما أرحمك، لو جعلت هذا الإنسان يمشي كما يريد إلى نهاية الطريق، لاستحق النار ؛ ولكن من رحمتك به أنك سُقت له هذه الشدائد، حتى حملْته على التوبة.
 وكلما كان الانحراف، أشد كانت الضربة قاسية. فتجد أحياناً إنساناً بنظرة قاسية يرتجع وآخر بِضربة يرتجِع، والآخر بالكلام، والآخر بالضرب، وهناك من لا ينفع معه إلا الضرب المبرّح، والآخر بالتعذيب، فكلما كانت حساسية ورِقَّة ؛ قال له: يا رب عصيتك فلم تعاقِبني ! قال: عبدي، قد عاقبتك ولم تدرِ ؛ ألم أحرِمك لذة مناجاتي ؟ إذْ هناك من إذا وجد في صلاته عدم الخشوع، يشعر وكأنه عوقب عقاباً أليماً. وهناك من لا يهتز حتى تأتيه المصيبة الكبيرة كي يتعظ.
 أيها الإخوة: يقول بعض العارفين: " يا إلهي، أسألك أن تشهدني اسمك النافع، فلا أركن على غيرك يا ولي يا واسع "، أحياناً يركن الإنسان للأغنياء والأقوياء، ويركن لمن ينفعه وينسى ربه. أما الصاحي فلا يركن إلا لله لأنه لا يرى إلا الله عز وجل وحده هو النافع ؛ إلهي أسألك أن تشهدني اسمك النافع، فلا أركن إلى غيرك. ـ ومن بعض العِقاب الإلهي، أن يسوق الله لك بعض الخير، على بعض عباده، فَتَركن إليهم، وتُحبهم وهم مُسَخرون لك ـ واجعلني نافعاً لِجميع عبادك، راضياً عنك في جميع مُرادك، إنك على كل شيء قدير.
 قال بعض العلماء: " الضار والنافع: اسمان أو وصفان يدلان على تمام القدرة الإلهية؛ فلا ضرَّ ولا نفعَ ولا شرَّ ولا خيرَ إلا وهو بإرادة الله "، هذا الكلام لو نعقِله حقَّ العقل، و نصدِّقه حقَّ التصديق، لأُزيلت من أنفسنا كُل المتاعب، وكل الهموم، ولذلك يقول الله عز وجل:
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
( سورة النساء: الآية 78 )
 النفع من الله، والضر من الله. - الآن دخلنا في موضوع جديد - لكن سبب الضر مِمَّن ؟ الفاعل هو الله. مثلاً لو أصدر الأستاذ قراراً بِتَرسيب طالب، فالذي أصدر هذا القرار هو المدرِّس أو المدير، لكن لماذا رسَّبه ؟ السبب من الطالب. لذلك ينبغي أن تُراعى الحقيقة في هذا الموضوع، فيجب أن تنسُب الضر - ولو أن الله هو الضار -لِنفسك، ويجب أن تنسب النفع إلى الله عز وجل والدليل قوله تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾
( سورة الشعراء )
 قال:
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ ﴾
 ولم يقل وإذا أمرضني ؛ لأن أصل المرض خروج عن منهج الله، والآية الكريمة:
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)﴾
( سورة النساء )
 فالحسنة من الله فِعلاً، ومن الله تفضلاً. والسيئة من الله فِعلاً، ومن العبد سبباً. لذلك عُزيت السيئات للإنسان.
 النقطة الدقيقة أن كل عمَلٍ منسوب إلى الله، حتى فاعلية الأشياء منسوبة إلى الله، فالله تعالى لو لم يشأ للسِّكين أن تقطع لما قطعت، لذلك سكين سيدنا إبراهيم لم تذبح ابنه إسماعيل. والنار التي وُضع بها لم تحرِقه. ويجب أن نعتقد أن فاعلية الأشياء بيد الله لذلك علماء التوحيد لخَّصوا هذه الحقيقة بِكلمة: " عندها لا بها "، أيْ الأشياء تفعل فعلتها بِمشيئة الله لا بقوة فيها، حتى الدواء لا يفعل فِعله حتى يشاء الله، لكُلِّ داءٍ دواء فإذا أصاب دواء الداء، بَرِءَ بإذن الله، حتى الدواء لا يفعل فِعله إلا بِمشيئة الله.
 قال بعضهم: الضار ؛ الذي يضر من يشاء من خلقه، حيث هو خالق الأشياء خيرها وشرها، نافعها وضارها، والنافع ؛ هو الذي يوصل النفع إلى من يشاء من خلقه، حيث هو خالق النفع والضر، والخير والشر.
 يقول الإمام الرازي: إن الضار النافع وصفان: إما أن يُعتبرا في أحوال الدنيا، أو في أحوال الدين. أما الأول فهو أن الله تعالى مُغنٍ هذا، ومُفقر ذاك ومعطٍ الصحة لهذا والمرض لذاك. وأما في أحوال الدين فهو يهدي هذا إذا شاء الهداية، ويُضِل ذاك إذا أصر على الضلال، تطلب الهدى فَيَهديك، وتطلب الضلال فَيُضلك.
 يقول الإمام القشيري: " إن الضار والنافع ؛ اسمان من أسماء الله تعالى، وفي معناهما إشارة إلى التوحيد" ؛ وهو أنه لا يصيب عبداً ضرٌ ولا نفع ولا خيرٌ ولا شرٌ إلا بمشيئة الله. وقضائه وقدرته ؛ فَمن استسلم لِحِكمة الله، عاش في راحة، ومن أبى وقع في كل آفة، ورد في الحديث القدسي:
(( أنا الله لا إله إلا أنا، من لم يستسلم لِقضائي، ولم يصبرعلى بلائي، ولم يشكر على نَعمائي، فَلْيَطلب رباً سواي ))
 نختم الدرس ببعض الآيات المتعلقة بهذا الاسم، يقول الله عز وجل:
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
(سورة الأعراف)
 ويقول سيدنا رسول الله:
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)﴾
(سورة يونس)
 وفي سورة النحل:
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)﴾
(سورة النحل)
 وقال تعالى:
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)﴾
(سورة الروم)
 هذه الآيات تؤكد ؛ أن النافع هو الله، والضار هو الله، وأنَّ الله يضر لِينفع، وأن الله سبحانه وتعالى غني عن تعذيب العِباد، إلا أنه يسوق لهم من الشدائد ما يحملهم على التوبة.
 آخر فقرة بالدرس: حظ العبد من هذا الاسم، الله اسمه النافع الضار، فما حظ المؤمن من هذا الاسم ؟ المؤمن يجب أن يكون نافعاً لعِباد الله، وينبغي أن لا يقترب من المنحرفين لئلا يصيبه منهم الضُر، قال تعالى:
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
( سورة المائدة: الآية 54 )
 الأثر الثاني: والمؤمن حِيال هذا الاسم الكريم ؛ ينبغي أن لا يرجوَ أحداً، وأن لا يخشى أحداً، وأن يكون اعتماده على الله كلياً. ومَنْ عَرَفَ أنَّ الله مولاه، قد تفرَّد بالإيجاد، وتوحَّد في الإنعام، فوَّض أموره إليه، فعاش في راحة، والخلق في راحة، وبذل النصح لكل أحدٍ، ولم يجد في قلبه غِشاً، ولا خِيانةً لِغيره.
 ومن الخير للذاكر ؛ أن يجمع بين اسمي الضار والنافع ؛ فإليهما تنتهي كل الصفات، فهو سبحانه وتعالى المالك للضر والنفع، ولا ضار ولا نافع سِواه قال تعالى:
﴿لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾
( سورة الرعد: الآية 16)
 وآخر حظٍ من هذا الاسم ؛ أن تُفَوِّض أمرك كلَّه لله، والاستسلام لله عز وجل، من المشاعر المُسعِدة التي هي ثمرة الإيمان بالله عز وجل

محمد راتب النابلسى