القصاص فى النفس أو القتل
أنواع القتل
القتل أنواع ثلاثة:
1- عمد.
2- شبه عمد.
3- خطأ.
القتل العمد :
فالقتل العمد هو: أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بما يغلب على الظن أنه يقتل به.
ويفهم من هذا التعريف أن جريمة القتل العمد لا تتحقق إلا إذا توفرت فيها الاركان الآتية:
.1- أن يكون القاتل عاقلا بالغا قاصدا القتل:
أما اعتبار العقل والبلوغ، فلحديث علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
وأما اعتبار العمد، فلما رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قال: قتل رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردت قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولي: «أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار» فخلاه الرجل، وكان مكتوفا بنسعة فخرج يجر نسعته. قال: فكان يسمى ذا النسعة رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، والترمذي وصححه.
وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمد قود، إلا أن يعفو ولي المقتول».
وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عامدا فهو قود، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولاعدلا».
.2- أن يكون المقتول آدميا ومعصوم الدم:
أي أن دمه غير مباح.
.3- أن تكون الاداة التي استعملت في القتل مما يقتل بها غالبا:
فإذا لم تتوفر هذه الاركان. فإن القتل لا يعتبر قتلا عمدا.
أداة القتل: ولا يشترط في الاداة التي يقتل بها سوى أنها مما تقتل غالبا، سواء أكانت محددة أم متلفة لتماثلهما في إزهاق الروح.
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بين حجرين، وكان فعل ذلك بجارية من الجواري.
وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة، والشعبي، والنخعي، الذين يقولون بأنه لا قصاص في القتل بالمثقل.
ومن هذا القبيل القتل بالاحراق بالنار، والاغراق بالماء، والالقاء من شاهق، وإلقاء حائط عليه، وخنق الانفاس، رحبس الإنسان، ومنع الطعام والشراب عنه حتى يموت جوعا، وتقديمه لحيوان مفترس.
ومنه ما إذا شهد الشهود على إنسان معصوم الدم بما يوجب قتله، ثم بعد قتله يرجعون عن الشهادة، ويقولون: تعمدنا قتله، فهذه كلها من الادوات التي غالبا ما تقتل.
ومن قدم طعاما مسموما لغيره، وهو يعلم أنه مسموم، دون آكله، فمات به، اقتص منه.
روى البخاري ومسلم: «أن يهودية سمت النبي صلى الله عليه وسلم في شاة، فأكل منها لقمة، ثم لفظها، وأكل معه بشر بن البراء، فعفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها» أي أنه عفا عنها قبل أن تحدث الوفاة لواحه ممن أكل فلما مات بشر بن البراء قتلها به.
لما رواه أبو داود: «أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها».
.القتل شبه العمد:
والقتل شبه العمد: هو أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بما لا يقتل عادة، كأن يضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير، أو لكزه بيده، أو سوط ونحو ذلك.
فإن كان الضرب بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات من ذلك الضرب، فهو قتل شبه عمد.
فإن كان الضرب في مقتل أو كان المضروب صغيرا أو كان مريضا يموت من مثل هذا الضرب غالبا، أو كان قويا، غير أن الضارب والى الضرب حتى مات فإنه يكون عمدا.
وسمي يشبه العمد، لأن القتل متردد بين العمد والخطأ، إذ أن الضرب مقصود، والقتل غير مقصود.
ولهذا أطلق عليه شبه العمد، فهو ليس عمدا محضا، ولاخطأ محضا.
ولما لم يكن عمدا محضا سقط القود، لأن الاصل صيانة الدماء فلا تستباح، إلا بأمر بين.
ولما لم يكن خطأ محضا، لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلظة.
روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط، فهو دية مغلظة في أسنان الإبل».
وأخرج أحمد وأبو داود عن عمرو بين شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عقل شبه العمد مغلظ، كعقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون الدماء في غير ضغينة ولاحمل سلاح».
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر».
.القتل الخطأ:
والقتل الخطأ هو: أن يفعل المكلف ما يباح له فعله، كأن يرمي صيدا، أو يقصد غرضا، فيصيب إنسانا معصوم الدم فيقتله، وكأن يحفر بئرا، فيتردى فيها إنسان، أو ينصب شبكة - حيث لا يجوز - فيعلق بها رجل فيقتل، ويلحق بالخطأ القتل العمد الصادر من غير مكلف، كالصبي والمجنون.
.الآثار المترتبة على القتل:
قلنا إن القتل: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
ولكل نوع من هذ الانواع الثلاثة آثار تترتب عليه.
وفيما يلي نذكر أثر كل نوع.
.موجب القتل الخطأ:
إن القتل الخطأ يوجب أمرين: أحدهما الدية المخففة على العاقلة، مؤجلة في ثلاث سنين.
وسيأتي ذلك حين الكلام على الدية.
ثانيهما الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل والكسب، فان لم يجد صام شهرين متتابعين.
وأصل ذلك قول الله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما}.
وإذا قتل جماعة رجلا خطأ.
فقال جمهور العلماء: على كل واحد منهم الكفارة.
وقال جماعة: عليهم كلهم كفارة واحدة.
الحكمة في الكفارة: قال القرطبي: واختلفوا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل.
وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم.
وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق، وهو التنعم بالحياة، والتصرف فيما أحل له تصرف الاحياء،
وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من اسم العبودية - صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو ذميا - ما يتميز به عن البهائم والدواب.
ويرتجى - مع ذلك - أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة.
وأى واحد من هذين المعنيين كان ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ، فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه. اه ووسيأتي بيان هذا.
.موجب القتل شبه العمد:
والقتل شبه العمد يوجب أمرين:
1- الاثم، لأنه قتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق.
2- الدية المغلظة على العاقلة - على ما سيأتي.
.أما القتل العمد:
فإنه يوجب أمورا أربعة:
1- الإثم.
2- الحرمان من الميراث والوصية.
3- الكفارة.
4- القود أو العفو.
فلا يرث القاتل من ميراث المقتول شيئا، لا من ماله ولا من ديته إذا كان من ورثته سواء أكان القتل عمدا أم كان خطأ.
وقاعدة الفقهاء في ذلك: من استعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وروى البيهقي عن خلاس أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها، فقال له إخوته: لاحق لك، فارتفعوا إلى علي كرم الله وجهه فقال له علي رضي الله عنه: حقك من ميراثها الحجر، فأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للقاتل من الميراث شئ».
والحديث معلول وقد اختلف في رفعه ووقفه، وله شواهد تقويه.
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للقاتل شئ، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا» وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وكذلك الأحناف والشافعية، وذهبت الهادوية والإمام مالك إلى أن القتل إن كان خطأ ورث من المال دون الدية، وقال الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما: لا يحرم القاتل من الميراث.
وكذلك تبطل الوصية إذا قتل له الموصى له الموصي.
قال في البدائع: القتل بغير حق جناية عظيمة تستدعي الزجر بأبلغ الوجوه، وحرمان الوصية يصلح زاجرا كحرمان الميراث فيثبت.
وسواء أكان القتل عمدا أم خطأ لأن القتل الخطأ قتل وأنه جاز المؤاخذة عليه عقلا، وسواء أوصى له بعد الجناية أو قبلها.
- الكفارة:
في حالة ما إذا عفا ولي الدم أو رضي بالدية: أما إذا اقتص من القاتل فلا تجب عليه كفارة.
روى الإمام أحمد عن وائلة بن الاصقع.
قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم.
فقالوا: «إن صاحبا لنا قد أوجب قال: فليعتق رقبة يفد الله بكل عضو منها عضوا منه من النار».
ورواه أيضا بسند آخر عنه قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب قال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار».
وهذا رواه أبو داود والنسائي.
ولفظ أبي داود قد أوجب يعني النار بالقتل.
قال الشوكاني في نيل الاوطار: في حديث وائلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد.
وهذا إذا عفا عن القاتل، أو رضي الوارث بالدية.
وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة المذكور في الباب ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القتل كفارة» وهو من حديث خزيمة بن ثابت.
وفي إسناده ابن لهيعة.
قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه، فيكون حسنا.
ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه.
.4- القود أو العفو:
القود أو العفو إما على الدية، أو الصلح على غير الدية، ولو بالزيادة عليها كما أن لولي الجناية العفو مجانا.
وهو أفضل.
{وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}.
وإذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإنه لا يبقى حق للحاكم بعد في تعزيره.
وقال مالك والليث: يعزر بالسجن عاماو مائة جلدة.
وأصل وجوب القود أو العفو قول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل له قتيل فهو يخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل» فالأمر في العفو أو القصاص إلى أولياء الدم.
وهم الورثة، فإن شاءوا طلبوا القود، وإن شاءوا عفوا، حتى لو عفا أحد الورثة سقط القصاص، لأنه لا يتجزأ.
روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا عنه بعض الأولياء، فأمر بقتله، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كانت النفس لهم جميعا، فلما عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أخذ حقه - يعني الذي لم يعف - حتى يأخذ حق غيره.
قال فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية في ماله، وترفع عنه حصة الذي عفا.
قال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك.
قال محمد: وأنا أرى ذلك.
وهو قول أبي حنيفة.
وإن كان في الورثة صغير فإنه ينتظر بلوغه، ليكون له الخيار، إذ أن القصاص حق لجميع الورثة.
ولا اختيار للصبي قبل بلوغه.
وإذا عفا الورثة جميعا أو أحدهم على الدية وجب على القاتل دية مغلظة، حالة في حاله كما سيأتي ذلك مفصلا في باب الديات.
.شروط وجوب القصاص:
ولا يجب القصاص إلا إذا توفرت الشروط الآتية:
.1- أن يكون المقتول معصوم الدم:
فلو كان حربيا، أو زانيا محصنا، أو مرتدا، فإنه لا ضمان على القاتل،
لا بقصاص ولابدية، لأن هؤلاء جميعا مهدور والدم.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم: يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
.2- أن يكون القاتل بالغا.
.3- أن يكون عاقلا.
فلا قصاص على صغير، ولا مجنون، ولا معتوه، لأنهم غير مكلفين، وليس لهم قصد صحيح أو إرادة حرة.
فإذا كان المجنون يفيق أحيانا، فقتل وقت إفاقته، اقتص منه.
وكذلك من زال عقله بسكر وهو متعد في شربه.
فعن مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان، يذكر أنه أتي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية: أن اقتله به.
فإن كان شرب شيئا ظنه غير مسكر، فزال عقله فقتل في هذه الحال، فلا قصاص عليه.
وفي الحديث يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
«رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ».
وقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن لا قود بين الصبيان، وأن قتلهم خطأ ما لم تجب الحدود، ويبلغوا الحلم، وان قتل الصبي لا يكون إلا خطأ.
.4- أن يكون القاتل مختارا:
فإن الاكراه يسلبه الارادة، ولا مسئولية على من فقد إرادته، فإذا أكره صاحب سلطان غيره على القتل، فقتل آدميا بغير حق، فإنه يقتل الآمر دون المأمور. ويعاقب المأمور.
وبهذا أخذ أبو حنيفة، وداود، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال الأحناف: وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك، ولصاحب المال أن يضمن المكره.
وإن أكرهه بقتل على قتل غيره، لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما.
والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا.
وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر.
وهو القول الآخر للشافعي.
وقال قوم: منهم مالك والحنابلة: يقتلان جميعا، إن لم يعف ولي الدم، فإن عفا ولي الدم وجبت الدية، لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكره تسبب في القتل بما يفضي إليه غالبا.
وإذا أمر مكلف غير مكلف بأن يقتل غيره: مثل الصغير والمجنون.
فالقصاص على الآمر، لأن المباشر للقتل آلة في يده، فلا يجب القصاص عليه، وإنما يجب على المتسبب.
وإذا أمر الحاكم بالقتل ظلما، فإما أن يكون المأمور عالما بأنه ظلم، أو لا يكون له علم به.
فإن كان عالما بأنه ظلم ونفذ أمره، وجب عليه القصاص، إلا أن يعفو الولي، فتجب الدية عليه، لأنه مباشر للقتل مع علمه بأنه ظلم، فلا يعذر ولا يقال إنه مأمور من الحاكم، لأن قاعدة الإسلام: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن لم يكن عالما بعدم استحقاقه القتل، فقتله، فالقصاص - إن لم يعف الولي، أو الدية - على الآمر بالقتل، دون المباشر، لأنه معذور لوجوب طاعة الحاكم في غير معصية الله.
ومن دفع إلى غير مكلف آلة قتل، ولم يأمره به، فقتل، لم يلزم الدافع شئ.
.5- ألا يكون القاتل أصلا للمقتول:
فلا يقتص من والد بقتل ولده، وولد ولده وإن سفل إذا قتله، بأي وجه من أوجه العمد، بخلاف ما إذا قتل الابن أحد أبويه فإنه يقتل اتفاقا، لأن الوالد سبب في حياة ولده، فلا يكون ولده سببا في قتله وسلبه الحياة، بخلاف ما إذا قتل الولد أحد والديه فإنه يقتص منه لهما.
أخرج الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل الوالد بالولد».
قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، وهو عمل أهل المدينة، ومروي عن عمر.
وروى يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حدف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له. فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر، أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة. ثم قال: أين أخو المقتول؟ فقال هاأنذا .6- أن يكون المقتول مكافئا للقاتل حال جنايته:
بأن يساويه في الدين، والحرية، فلا قصاص على مسلم قتل كافرا.
أو حر قتل عبدا، لأنه لا تكافؤ بين القاتل والمقتول، بخلاف ما إذا قتل الكافر المسلم، أو قتل العبد الحر، فإنه يقتص منهما.
والإسلام وإن كان قد ألغى الفوارق بين المسلمين في هذا الباب، فلم يفرق بين شريف ووضيع، ولابين جميل ودميم، ولابين غني وفقير، ولا بين طويل وقصير، ولابين قوي وضعيف، ولابين سليم ومريض، ولابين كامل الجسم وناقصه، ولابين صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثى إلا أنه اعتبر الفارق بين المسلم والكافر، والحر والعبد، فلم يجعلهما متكافئين في الدم.
فلو قتل مسلم كافر أو قتل حر عبدا فلا قصاص على واحد منهما.
وأصل ذلك حديث علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر».
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم. وصححه.
وروى البخاري عن علي كرم الله وجهه أيضا أن أبا جحيفة قال له: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن.
قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وفكاك الاسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
وهذا مجمع عليه بالنسبة للكافر الحربي: فإن المسلم إذا قتله، فإنه لا يقتل به إجماعا.
وأما بالنسبة للذمي والمعاهد، فقد اختلفت فيهما أنظار الفقهاء.
فذهب الجمهور منهم إلى أن المسلم لا يقتل بهما لصحة الأحاديث في ذلك، ولم يأت ما يخالفها.
وقالت الأحناف وابن أبي ليلى: لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر الحربي، كما قال الجمهور. وخالفوهم في الذمي، والمعاهد.
فقالوا: إن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد بغير حق، فإنه يقتل بهما، لأن الله تعالى يقول: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}.
وأخرج البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل مسلما بمعاهد.
وقال: «أنا أكرم من وفى بذمته».
وقالوا أيضا: أن المسلمين أجمعوا على أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي.
فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه.
رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل ذميا كافرا، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة فألفاها إليه.
فإذا فيها: يا قاتل المسلم بالكافر - جرت، وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأطرافها - من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا على دينكم - واصطبروا، فالاجر للصابر جار على الدين أبو يوسف - بقتله المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة.
فقال الرشيد: تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة.
فخرج أبو يوسف، وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وقال مالك والليث: لا يقتل المسلم بالذمي، إلا أن يقتله غيلة.
وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه، وبخاصة على ماله.
هذا بالنسبة للكافر، وأما العبد، فإن الحر لا يقتل به إذا قتله، بخلاف ما إذا قتل العبد الحر، فإنه يقتل به.
لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحاسهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة».
ولان الله تعالى يقول: {الحر بالحر}.
وهذا التعبير يفيد الحصر، فيكون معناه: أنه لا يقتل الحر بغير الحر.
وإذا كان لا يقتل به فإنه يلزمه قيمته، بالغة ما بلغت، وإن جاوزت دية الحر.
هذا إذا قتل عبد غيره.
أما إذا كان السيد هو الذي قتل عبده فعقوبته ما ذكر في الحديث.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، منهم مالك والشافعي، وأحمد، والهادوية.
وقال أبو حنيفة: يقتل الحر إذا قتل العبد، إلا إذا كان سيده.
وذلك أن الآية الكريمة تقول: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}.
وهذا عام في كل الحالات، إلا إذا خصص، وقد خصصته السنة بحديث البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده».
ولو صح هذا لكان قويا، إلا أن الحديث من رواية عمر بن عيسى، وقد ذكر البخاري أنه منكر الحديث.
وقال النخعي: يقتل الحر بالعبد مطلقا، أخذا بعموم قوله تعالى: {أن النفس بالنفس}.
.7- ألا يشارك القاتل غيره في القتل:
ممن لا يجب عليه القصاص، فإن شاركه غيره ممن لا يجب عليه القصاص كأن اشترك في القتل، عامد ومخطئ، أو مكلف وسبع، أو مكلف وغير مكلف: مثل الصبي والمجنون، فإنه لاقصاص على واحد منهما، وعليهما الدية، لوجود الشبهة التي تندرئ بها الحدود، فإن القتل لا يتجزأ، ويمكن أن يكون حدوثه من فعل الذي لا قصاص عليه - كما يمكن أن يكون ممن يجب عليه القصاص - وهذه الشبهة تسقط القود.
وإذا سقط وجب بدله، وهو الدية.
وخالف في ذلك مالك والشافعي رضي الله عنهما.
فقالا: على المكلف القصاص، وعلى غير المكلف نصف الدية.
ومالك يجعلها على العاقلة، والشافعية يجعلونها في ماله.
قتل الغيلة: وقتل الغيلة عند مالك أن يخدع الإنسان غيره، فيدخل بيته ونحوه، فيقتل أو يأخذ المال.
قال مالك: الأمر عندنا أن يقتل به، وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان.
وقال غيره من الفقهاء: لافرق بين قتل الغيلة وغيره، فهما سواء في القصاص والعفو، وأمرهما راجع إلى ولي الدم.
وإذا قتلته جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية من شاء وهو مروي عن ابن عباس، وبه يقول سعيد بن المسيب، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، وقتادة.
وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
فقد قتلت امرأة هي وخليلها ابن زوجها فكتب يعلى بن أمية إلى عمر ابن الخطاب - وكان يعلى عاملا له - يسأله رأيه في هذه القضية؟ فتوقف رضي الله عنه في القضية، وكان أن قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا، وهذا عضوا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم. قال: وذلك.
وكان أن كتب أمير المؤمنين إلى يعلى بن أمية عامله: أن اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل ضنعاء كلهم لقتلتهم.
وذهب الشافعي إلى أن لولي المقتول أن يقتل الجميع به، وأن يقتل أيهم أراد، ويأخذ من الآخرين حصتهم من الدية.
فإن كانوا اثنين وأقاد من واحد، فله أخذ نصف الدية من الثاني.
وإن كانوا ثلاثة، فأقاد من اثنين، فله من الآخر ثلث الدية.
الجماعة تقتل بالواحد:
إذا اجتمع جماعة على قتل واحد فإنهم يقتلون به جميعا، سواء أكانت الجماعة كثيرة أم قليلة، ولو لم يباشر القتل كل واحد منهم، لما رواه مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب، قتل نفر برجل واحد، قتلوه قتل غيلة.
وقال: لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا.
واشترطت الشافعية والحنابلة أن يكون فعل كل واحد من المشتركين في القتل بحيث لو انفرد كان قاتلا، فإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص.
وقال مالك: الأمر عندنا: أنه يقتل في العمد الرجال الاحرار بالرجل الحر الواحد، والنساء بالمرأة كذلك، والعبيد بالعبد كذلك أيضا.
وفي المسوى قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد، يقتلون به قصاصا.
وقد رأى هؤلاء الفقهاء أن ذلك هو المصلحة، لأن القصاص شرع لحياة الأنفس، فلو لم تقتل الجماعة بالواحد، لكان كل من أراد أن يقتل غيره استعان بشركاء له حتى لا يقاد منه.
وبذلك تبطل الحكمة من شرعية القصاص.
وذهب ابن الزبير، والزهري، وداود، وأهل الظاهر إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لأن الله تعالى يقول: {أن النفس بالنفس}.
إذا أمسك رجل رجلا وقتله آخر: وإذا أمسك رجل رجلا فقتله رجل آخر، وكان القاتل لا يمكنه قتله إلا بالإمساك، وكان المقتول لا يقدر على الهرب بعد الإمساك: فإنهما يقتلان، لأنهما شريكان.
وهذا مذهب الليث، ومالك، والنخعي.
وخالف في ذلك الشافعية والأحناف.
فقالوا: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت جزاء إمساكه للمقتول.
لما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك». وصححه ابن القطان.
وقال الحافظ بن حجر: ورجاله ثقات.
وأخرج الشافعي عن علي أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر.
قال: يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت.
ثبوت القصاص:
يثبت القصاص بما يأتي:
.أولا: بالاقرار:
لأن الاقرار كما يقولون: سيد الادلة.
وعن وائل بن حجر قال: «إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة، فقال يا رسول الله: هذا قتل أخي فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ فقال: نعم قتلته».
إلى آخر الحديث رواه مسلم والنسائي.
.ثانيا: يثبت بشهادة رجلين عدلين:
فعن رافع بن خديج قال: «أصبح رجل من الانصار بخيبر مقتولا فانطلق أولياؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» إلى آخر الحديث. رواه أبو داود.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين، ولا شاهد ويمين الطالب، لا نعلم في هذا - بين أهل العلم - خلافا.
وذلك، لأن القصاص إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين، كالحدود، وسواء كان القصاص يجب على مسلم، أو كافر، أو حر، أو عبد لأن العقوبة يحتاط لدرئها.
.استيفاء القصاص:
يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط:
1- أن يكون المستحق له عاقلا، بالغا.
فإن كان مستحقه صبيا أو مجنونا لم ينب عنهما أحد في استيفائه: لا أب، ولا وصي، ولا حاكم، وإنما يحبس الجاني حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، فقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة، ولم ينكر عليه أحد.
2- أن يتفق أولياء الدم جميعا على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به، فإن كان بعضهم غائبا، أو صغيرا، أو مجنونا، وجب انتظار الغائب حتى يرجع، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، قبل أن يختار، لأن من كان له الخيار في أمر لم يجز الافتيات عليه لأن في ذلك إبطال خياره.
وقال أبو حنيفة: للكبار استيفاء حقوقهم في القود، ولا ينتظر لهم بلوغ الصغار.
فإن عفا أحد الأولياء سقط القصاص لأنه لا يتجزأ.
3- أن لا يتعدى الجاني إلى غيره، فإذا كان القصاص قد وجب على امرأة حامل، لا تقتل حتى تضع حملها وتسقيه اللبأ.
لان قتلها يتعدى إلى الجنين، وقتلها قبل سقيه اللبأ يضربه، ثم بعد سقيه اللبأ إن وجد من يرضعه أعطي له الولد، واقتص منها، لأن غيرها يقوم على حضانته، وإن لم يوجد من يرضعه ويقوم على حضانته، تركت حتى تفطمه مدة حولين.
روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها وإذا زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها» وكذلك لايقتص من الحامل في الجناية على الاعضاء حتى تضع، وإن لم تسقه اللبأ.
متى يكون القصاص؟ يكون القصاص متى حضر أولياء الدم، وكانوا بالغين، وطالبوا به، فإنه ينفذ فورا متى ثبت بأي وجه من وجوه الاثبات، إلا أن يكون القاتل امرأة حاملا، فإنها تؤخر حتى تضع حملها، كما سبق.
.بم يكون القصاص:
الاصل في القصاص أن يقتل القاتل بالطريقة التي قتل بها، لأن ذلك مقتضى المماثلة والمساواة، إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح، ولان الله تعالى يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
ويقول: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}.
وأخرج البيهقي من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من غرض غرضنا له، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه».
وقد رضخ الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي بحجر كما رضخ هو رأس المرأة بحجر.
وقد قيد العلماء هذا بما إذا كان السبب الذي قتل به يجوز فعله، فإذا كان لا يجوز فعله - كمن قتل بالسحر - فإنه لا يقتل به، لأنه محرم.
قال بعض الشافعية: إذا قتل بإبجار الخمر، فإنه يؤجر بالخل.
وقيل يسقط اعتبار المماثلة.
ورأى الأحناف والهادوية: أن القصاص لا يكون إلا بالسيف.
لما أخرجه البزار وابن عدي عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاقود إلا بالسيف».
ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة».
وأجيب على حديث أبي بكرة بأن طرقه كلها ضعيفة.
وأما النهي عن المثلة فهو مخصص بقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}.
وقوله: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
هل يقتل القاتل في الحرم؟
اتفق العلماء على أن من قتل في الحرم فإنه قتله فيه.
فإذا كان قد قتل خارجه ثم لجأ إليه، أو وجب عليه القتل بسبب من الاسباب، كالردة، ثم لجأ إلى الحرم..فقال مالك: يقتل فيه.
وقال أحمد وأبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، ولكن يضيق عليه، فلا يباع له ولا يشترى منه، حتى يخرج منه، فيقتل خارجه.
.سقوط القصاص:
ويسقط القصاص بعد وجوبه بأحد الاسباب الآتية:
.1- عفو جميع الأولياء أو أحدهم:
بشرط أن يكون العافي عاقلا مميزا، لأنه من التصرفات المحضة التي لا يملكها الصبي ولا المجنون.
.2- موت الجاني أو فوات الطرف:
الذي جنى به، فإذا مات من عليه القصاص، أو فقد العضو الذي جنى به سقط القصاص، لتعذر استيفائه.
وإذا سقط القصاص وجبت الدية في تركته للاولياء عند الحنابلة وفي قول للشافعي.
وقال مالك والأحناف: لا تجب الدية، لأن حقوقهم كانت في الرقبة، وقد فاتت، فلاسبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم.
وحجة الأولين: أن حقوقهم معلقة في الرقبة، أو في الذمة، وهم مخيرون بينهما، فمتى فات أحدهما وجب الآخر.
.3- إذا تم الصلح بين الجاني والمجني عليه أو أوليائه:
القصاص من حق الحاكم: إن المطالبة بالقصاص حق لولي الدم كما تقدم، وتمكين ولي الدم من الاستيفاء حق للحاكم.
قال القرطبي: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص، وإقامة الحدود، وغير ذلك، لأن الله سبحانه طالب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود.
وعلة ذلك ما ذكره الصاوي - في حاشيته على الجلالين - قال: فحيث ثبت القتل عمدا عدوانا، وجب على الحاكم الشرعي أن يمكن ولي المقتول من القاتل، فيفعل فيه الحاكم ما يختاره الولي من: القتل، أو العفو، أو الدية، ولا يجوز للولي التسلط على القاتل من غير إذن الحاكم، لأن فيه فسادا وتخريبا فإذا قتله قبل إذن الحاكم عزر.
وعلى الحاكم أن يتفقد آلة القتل التي يقتص بها مخافة الزيادة في التعذيب وأن يوكل التنفيذ إلى من يحسنه.
وأجرة التنفيذ على بيت المال.
.الافتيات على ولي الدم:
قال ابن قدامة: وإذا قتل القاتل غير ولي الدم فعلى قاتله القصاص، ولورثته الأول الدية.
وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه.
وقال الحسن، ومالك: يقتل قاتله، ويبطل دم الأول، لأنه فات محله.
وروى عن قتادة، وأبي هاشم أنه لا قود على الثاني، لأنه مباح الدم، فلا يجب قصاص بقتله.
وحجة الجمهور في وجوب القصاص على القاتل، أنه محل لم يتحتم قتله، ولم يبح قتله لغير ولي الدم، فوجب بقتله القصاص.
.القصاص بين الابقاء والالغاء:
لقد ثار الجدل فعلا حول عقوبة الاعدام، وتعرضت لها أقلام الكتاب، من الفلاسفة، ورجال القانون أمثال: روسو، وبنتام، وبكاريا وغيرهم.
ومنهم من أيدها، ومنهم من عارضها ونادى بإلغائها.
واستند القائلون بإلغائها إلى الحجج الآتية:
أولا:
أن العقاب حق تملكه الدولة باسم المجتمع الذي تذود عنه، وتقتضيه ضرورة المحافظة عليه وحمايته.
والمجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى يمكنه أن يحكم بمصادرتها.
ثانيا:
ولان الظروف وسوء الحظ قد يحيطان ببرئ، فيقضى خطأ بإعدامه، وعند ذلك لا يمكن إصلاح هذا الخطأ، إذ لاسبيل إلى ارجاع حياة المحكوم عليه إليه.
ثالثا:
ولان هذه العقوبة قاسية وغير عادلة.
رابعا:
ولأنها أخيرا غير لازمة، فلم يقم دليل على أن بقاءها يقلل من الجرائم التي تستوجب الحكم بها، ورد القائلون ببقاء عقوبة الاعدام على هذه الحجج: فقالوا عن الحجة الأولى: وهي أن المجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى يصادر حياته بأن المجتمع أيضا لم يهب الناس الحرية، ومع ذلك فإنه يحكم بمصادرتها في العقوبات الاخرى المقيدة للحرية.
والاخذ بالحجة على إطلاقها يستتبع حتما القول بعدم مشروعية كل عقوبة مقيدة للحرية.
على أن الأمر ليس وقفا على التكفير عن خطأ الجاني، ولكنه أيضا للدفاع عن حق المجتمع في البقاء، ببتر كل عضو يهدد كيانه ونظمه، الأمر الذي يتحتم معه القول بأن عقوبة الاعدام ضرورة تقتضيها عصمة النفس، والمحافظة على كيان المجتمع.
وقالوا عن الحجة الثانية، وهي: أن العقوبة تحدث ضررا جسيما لا سبيل لاصلاحه ولا إيقافه - إذا حكم القضاء بها ظلما - بأن احتمال الخطأ موجود في العقوبات الاخرى، ولا سبيل إلى تدارك ما تم تنفيذه خطأ.
على أن حالات الاعدام خطأ تكاد تكون منعدمة، إذ أن القضاة يتحرجون عادة من الحكم بتلك العقوبة، ما لم تكن أدلة الاتهام صارخة.
وردوا على القول بأنها غير عادلة بأن الجزاء من جنس العمل.
وأما القول بأنها غير لازمة، فمردود عليه بأن وظيفة العقوبة - في الرأي الراجح في علم العقاب - وظيفة نفعية: أي من مقتضاها حماية المجتمع من شرور الجريمة.
وهذا يقتضي أن تكون العقوبة متناسبة مع درجة جسامة الجريمة، ذلك أن الجريمة تحقق هوى في نفس المجرم، يقابله خوفه من العقاب، وكلما كان العقاب متناسبا مع الجريمة أحجم الجاني عن الاقدام عليها، لأنه سيوازن بين الأمرين بين الجريمة التي سيقدم على ارتكابها، وبين العقوبة المقررة لها، فيدفعه الخوف من العقاب إلى الاحجام عن الجريمة متى كانت العقوبة رادعة.
وفي ظل هذين الرأيين أقرت غالبية القوانين عقوبة الاعدام، ومنها قانون العقوبات المصري، في حالات معينة، واستجابت بعض الدول لآراء من ثاروا عليها فألغتها من قوانينها.