الرزاق
مع الدرس الثاني عشر من دروس أسماء الله الحسنى والاسم اليوم هو الرزاق. ورد هذا الاسم في قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)﴾
(سورة الذاريات)
والرزَّاق كما تعلمون صيغة مبالغة، وإذا جاء اسم الله عزَّ وجل بصيغة المبالغة فمعنى أنه يرزق العباد جميعاً مهما كثر عددهم ويرزق الواحد منهم رزقاً وفيراً لا حدود له، إما على مستوى مجموع المرزوقين، وإما على مستوى كمية الرزق، لذلك لم تأت الرازق بل أتت الرزَّاق، لأنه يرزق كل العباد ويرزق العبد الواحد كل شيء، إذا أعطى أدهش.
وورد هذا الاسم في قوله تعالى على شكل فعل مضارع:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)﴾
(سورة العنكبوت الآية 60)
ومن دعاء سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، اللهم يا رازق البُغاث، (للبغاث قصة)، والبغاث فراخ الغراب، أضعف أنواع الطير، والمثل العربي الشهير: " إن البغاث بأرضنا يستنسر"، لشدة ضعفنا صار البغاث وهو أضعف الطيور صار أمامنا كالنسر.
هذا البغاث فرخ من فراخ الغراب فإذا انفقأت البيضة عنه خرج البغاث أبيض كالشحمة، يعني قطعاً من الشحم، فإذا رآه الغراب أنكره لبياضه، لأن الغراب أسود اللون، فيسوق الله تعالى له بعض الحشرات يتغذى عليها إلى أن ينبت ريشه ويسود لونه عندئذ يتعرف عليه الغراب.
فمن أغرب هذه القصص أن فراخ الغراب وهي البغاث عبارة عن شحمة بيضاء لا تقوى على شيء والله سبحانه وتعالى يسوق لها الرزق، إذاً ورد في بعض الأدعية يا رازق البغاث في عشه.
الحقيقة الرزق من الخطأ والسذاجة أن تحصره في الطعام والشراب قال:
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)﴾
(سور آل عمران)
فقال العلماء: " رزق الأبدان بالأطعمة ورزق الأرواح بالمعرفة "، والمعرفة أشرف الرِزقَين فإذا خصك الله بدخل وفير أكلت به أطيب الطعام وخص عبداً آخر برزق المعرفة فاعلم علم اليقين أن العبد الآخر أكثر حظوةً عند الله منك لأنه منحه رزق النفوس رزق الأرواح وهي المعارف، قال الله عز وجل:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾
(سورة القصص)
هذا هو الرزق.. وقد ورد في بعض الأحاديث:
(( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ))
وكأن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل كلمة الطعام والشراب للرزق الروحي وهو أشرف أنواع الأرزاق.
يا أيها الإخوة الأكارم.. بشارة: من أسباب سَعة الرزق الصلاة.. ما الدليل.. قال الله عز وجل:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾
(سورة طه)
استنباط من الآية لطيف جداً، فإذا أردت أن يزداد رزقك لن أقول لك صل فأنت مصلٍ إنما أقول لك أتقن صلواتك، فالخشوع من فرائض الصلاة لا من فضائلها، وربنا عز وجل حينما أثنى على المؤمنين، قال الله تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾
(سورة المؤمنون)
ومن آداب العبودية أن يرجع العبد إلى ربه في كل ما يريد، في الأشياء النفيسة وفي الأشياء الخسيسة، هذا من آداب العبد مع الله عز وجل، أن يرجع إليه في كل شيء خسيساً كان أو نفيساً، أي إن الله يحب من العبد أن يسأله شسع نعله إذا انقطع.. ضيعتَ مفاتيح البيت قل اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، اجمع بيني وبينهم، اِسأله الأشياء الخسيسة كما تسأله الأشياء النفيسة.. إذا أضعت مكان موعد اللقاء مثلاً..
ذكر لي أحد الأخوة توجه إلى المدينة المنورة ونسي العنوان الذي سوف يتوجه إليه فدعا الله في الطريق فساقه إلى البيت بشكل يسير بينما إنسان آخر بقي عشر ساعات ضائعاً عن مكان البيت.
إذاً اسأله الأشياء الخسيسة كما تسأله الأشياء النفيسة، وهذا من تمام العبودية لله عز وجل.
الدليل.. سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ماذا سأل الله، قال رب أرني أنظر إليك، فهذا من الأسئلة النفيسة من أرقى الأسئلة، ولما جاع قال:
﴿ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾
وهذا دليل على أن العبد يجب أن يسأل ربه كل شيء.
سيدنا علي رضي الله عنه يقول: " لستَ مطالباً بطلب الرزق ولكنك أمرت بطلب الجنة " فما الذي فعلته، تركت ما أمرت بطلبه وطلبت ما أُمرت بتركه، هذه مشكلة الناس، والله سبحانه وتعالى ضمن لهم الرزق بأدلةٍ كثيرة، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)﴾
(سورة الذاريات)
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(40)﴾
(سورة الروم)
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)﴾
(سورة الأنعام)
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)﴾
(سورة الإسراء)
أدلة كثيرة.. قال الله تعالى:
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)﴾
(سورة الذاريات)
إذاً ربنا سبحانه وتعالى طمأننا بأنه تكفل لنا رزقنا، ومع ذلك يجهد الناس ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل من أجل الرزق.
(( خلقت السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ))
تكّفل لنا بالرزق وأمرنا أن نسعى للدار الآخرة، فقال:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾
(سورة النجم)
ما الذي يحصل، إن الذي كُلِّفت في طلبه توانيت في طلبه والذي ضمنه لك سعيت إليه.
إذاً أَقبلوا على ما كُلِّفتم ودعوا ما ضُمِن لكم، سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام يَقول فيما تروي بعض الكتب: " لا تغتمُّوا لبطونكم ".
إنسان توفي أخوه وترك لهم خمسة أولاد ليس له مورد رزق، فصار يبكي، ثم التقى بشيخه فقال له ما بالك يا ولدي، قال توفي أخي وترك لي خمسة أيتام، قال ألم يترك لهم شيئاً، قال بلى شيئاً يكفيهم سنة قال جيد حينما تنتهي هذه المؤونة ابدأ بالبكاء. وتروي المقولة إن هذا الرجل توفي قبل أن ينتهي الرزق بثلاثة أشهر.
أعرِفُ شخصاً سيُهدم منزله، لسبب تنظيمي، فضاج وزمجر وأرعد، وتمزق وبكى واستعطف، وقد وُعِدَ وَعْدَاً قطعياً بتأمين بيتٍ لائق له، رغم كل الوعود والمواثيق بقي مضطرباً وضَجِراً ومات بعد أشهر عدة قبل أن يهدم بيته.
الإنسان لا ينبغي له أن يهتم للشيء أكثر مما ينبغي.
قال بعض العلماء: " الرازق من غذّى نفوس الأبدان بتوفيقه، وحلى قلوب الأخيار بتصديقه "، دائماً الرزق رزقان رزق الأبدان ورزق النفوس، وقال عليه الصلاة والسلام:
(( إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت ))
وبعض العلماء فسر القوت برزق الأرواح، يعني إذا صليت صلاةً وأعجبتك، إذا صليت وبكيت إذا قرأت القرآن وخشع قلبك تطمئن فمعناها أنك قريب من الله عز وجل، وأن هناك حياة ونبض، وأن هناك شيئاً من الإخلاص حتى خشعت، إذاً إذا أحرزتِ النفس قوتها اطمأنت، بالمعنى الأول والمعنى الثاني.
قال بعض العلماء: " الرزاق من خص الأغنياء بوجود الرزق "، ترى الغنيَّ أنَّ المال بين يديه كثير، يأكل ما يشتهي يشتري أجمل بيت يقتني أجمل أثاث، يذهب إلى أي مكان يشاء، يختار أجمل مركبة، يختار أجمل الثياب، يختار أجمل المصايف. قال: "الرزاق هو الذي خص الأغنياء بوجود الرزق، وخص الفقراء المؤمنين بشهود الرزاق ".
أعطاك طعاماً وأعطى الغني طعاماً وشراباً وبيتاً ودخلاً ومركبة وأعطى الفقير المؤمن شهود الرزاق، إما أن تجد الأرزاق وإما أن تشهد الرزاق، المجموع ثابت، هناك نظرية رائعة جداً، معناها لو جمعت كل شيء أعطاك الله إياه وجمع الآخَرُ كل شيء أعطاه الله إياه لكان مجموع الاثنين واحداً، فإذا أخذ منك بعض البحبوحة عوضك عنها ببعض التجلي، وإذا أغرقك في النعيم المادي حرمك من نعيم القرب.
فهناك توازن يعبّرون عنه بأن المجموع واحد والمجموع ثابت، وهناك نظرية أخرى ليست في المعنويات في الماديات، فلو أعطى الإنسان علامة للزوجة والبيت علامة والدخل علامة ولوظيفته علامة ولصحته علامة ولوسامته علامة، تجد أن معظم الناس ينالون مجموع علامات واحد لكن متفاوتة فيما بينها، مثلاً ثمانية على الزوجة اثنان على الأولاد خمسة على الرزق فالمجموع خمس عشرة، اثنتان على الزوجة ثمان على الأولاد خمس على الرزق المجموع خمس عشرة، عشر على الرزق ثلاث زوجة اثنان على الأولاد المجموع خمس عشرة، فلو دققت ترى من له دخل أقل من حاجته هو منعم براحة البال التي لا يحلم بها من آتاه الله زرقاً وفيراً، يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام:
(( خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر ))
شيء آخر عن الرزق، الزرق أيها الإخوة في أدق تعاريفه هو ما يُنتَفع به: المال ينتفع به، العلم ينتفع به، الخلق ينتفع به، شعور القلب بالطمأنينة ينتفع به، في أدق تعاريف الرزق، الرزق ما ينتفع به.
جاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال من أين تأكل، فقال من خزائنه فقال الرجل أيلقي الله عليك الخبز من السماء، فما هذا الكلام، قال: " لو لم تكن الأرض له لألقى علي من السماء الخبز، يرزقني من الأرض " هكذا تجد أن الإنسان حينما يطلب الرزق من الله عز وجل فالله يسوق له الرزق، يلتقي بإنسان صدفة يسأله أتعمل، يقول لا، يقول له هناك عمل.
الموضوع طويل وله آلاف الشواهد، قد ترزق من حيث لا تحتسب قد ترزق بسبب تافه جداً قد ترزق بنظرة، قد ترزق برسالة جاءتك خطأً قد ترزق ببضاعة كاسدة.
سمعت أن أحد تجار البزورية في الحرب العالمية الثانية باع السكر بزيادة قليلة فجاءت الضابطة فأغلقت المحل بالشمع الأحمر، إلى أن انتهت الحرب تضاعف السعر مائة ضعف فاغتنى إلى ولد ولده كما يقولون، فقد ترزق بشيء مزعج، فالله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين.
الشيء الدقيق أنك إذا علمت أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين أفردته بالقصد، الناس أحياناً يتجهون إلى زيد إلى عبيد إلى فلان إلى هذه الجهة يطمعون ليأخذوا، ولكن إذا علمت أن الله وحده هو الرزاق تفرده بالقصد ولا تسأل أحداً سواه، تكسب العزة والكرامة والطمأنينة والحظوة عند الله عز وجل.
قيل لإنسان آخر من أين تأكل قيل من خزائن مَلِكِ لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس، خزائن الله عز وجل مفتوحة وخزائنه مملوءة وخزائنه فيها كل شيء، والدليل. قوله تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
(سورة الحجر)
من أسخف النظريات أن يقول الإنسان إن موارد الأرض تشح، إن الأرض مهددة بمجاعة، إن ازدياد السكان ازدياد هندسي، " مالتوس" يقول الانفجار السكاني سيوقع الناس بمجاعة كبيرة، هذه كلها كلمات من لا يعرف الله عز وجل، لأن كل تقنين أو تقتير أو تقليل في الرزق هو تقليل وتقنين من نوع التأديب لا من نوع العجز، والإنسان وحده إذا قنَّن فعن عجز أما الإله إذا قنن فلغاية التأديب فقط.
امرأة أحد العارفين بالله قيل لها كيف يرزقك زوجك قالت زوجي ليس رزَّاقاً بل كيّال.
فمن الأخطاء الشائعة أخطاء في التوحيد، يقولون فلان معيل، أي عنده عائلة كبيرة، والصواب فلان مُعال وليس مُعيل، المُعيل هو الله عز وجل، والناس كلهم على مائدة الرحمن.
كما قلت قبل قليل إن الله عز وجل خص الأغنياء بوجود الأرزاق وخص الفقراء بشهود الرزاق، فمن شهد الرزاق ما ضره ما فاته من الأرزاق، من علامة المؤمن أنه إذا عرف الله ووصل إليه ما تألم على شيء فاته من الدنيا قط، إذا تألمتَ ألماً شديداً وإذا احترق القلب حرقة لاذعة على شيء فاتك من الدنيا فهذه علامة أنك لا تعرف الله وأنك ما وصلت إليه، فلو وصلت إليه لما تألمت ولما حزنت على شيء فاتك من الدنيا إطلاقاً، وقد قيل إن سيدنا الصديق رضي الله عنه ما ندم على شيء فاته قط، أحياناً تجلس مع إنسان تحس قلبه يحترق ندماً لأن هذه الأرض باعها ثم أصبح سعرها مائة ضعف، متألم ألماً شديداً ألماً لا حدود له - بل إن معظم الأمراض اليوم أمراض القلب والشرايين أمراض المعدة وأمراض الأعصاب وأمراض الأوعية، هذه الأمراض أكثرها بسبب الآلام والندم، دائماً يتألم، أما إذا شهدت الرزاق ما ضرك ما فاتك من الأرزاق.
ومن عرف أن الرزاق واحد قصده ولم يسأل أحداً سواه، كلكم يعرف القصة التالية أن أحد خلفاء بني أمية طلب عالماً جليلاً ليلتقي به، فالتقى به، فأراد هذا الخليفة أن يكرم هذا العالم، قال له سلني حاجتك، فقال والله إني لا أسأل غير الله في بيت الله، فهذا بيت الله أستحي أن أسأل أحداً سواه، فلما التقى به خارج المسجد قال له سلني حاجتك، قال والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها ؟ فلما أصَّر عليه، قال أطلب منك الجنة، قال هذه ليست لي، قال إذاً ليس لي عندك حاجة.
هذا العِزّ عزة التعفف، فما أجمل أن يعطي الغني الفقير، والأجمل من ذلك أن يتعفف الفقير عن مال الغني وأن يقول الحمد لله.
قال بعض العلماء: " كما أن الله لا شريك له في خلقه، لا شريك له في رزقه، كما أنه لا إله إلا الله، أيضاً لا رازق إلا الله.
يقولون دائماً إذا أعطى أدهش.
ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجى هلكن إذاً من جهلهن البهائم
***
ترى إنساناً ذكياً جداً رزقه قليل وقد تجد إنسان في منتهى البساطة والسذاجة رزقه وفير، فمعناها الرزق له عامل آخر غير عامل الذكاء وعامل السعي، لكن تأكدوا أن للرزق علاقةً بالاستقامة، العوام يفهمون أن هذا الرزق مكتوب ولا حيلة لأحد في كسبه ودفعه، هذا الكلام صحيح من جانب واحد، فالله يقول:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16)﴾
(سورة الجن)
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾
(سورة الأعراف)
(( قد يحرم المرء بعض الرزق في المعصية ))
حديث شريف.. إذا أردنا أن نوضح هذه الحقيقة، مثلاً إذا رأيت أن ابنك ليس أهلاً لتملك المال، فإنك تعطيه الحد الأدنى، تعطيه مبلغاً يسيراً يكفي حاجاته الضرورية، أما إذا كان ابنك من أهل الصلاح، ورعاً واستقامةً واتزاناً وحكمةً تقول له أبقِ معك الخمسمائة ليرة لا شيء عليك، أما خمسمائة لولد آخر يذهب لأماكن لا ترضي الله عز وجل تعطيه ثمن شطيرة ثمن ركوب سيارة، الحد الأدنى.. لذلك قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
(سورة الشورى)
الفكرة خطيرة وهامة جداً، التقنين تقنين تأديب لا تقنين عجز، أو الأصح من ذلك التقنين تقنين حكمة لا تقنين حاجة.
يروى في بعض الكتب أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، سأل الله في مناجاته، قال يا رب إني تعرض لي الحاجة الصغيرة أحياناً، أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك، أي أن الإنسان أحياناً يحتاج شيئاً بسيطاً، فمرةً حدثني طبيب ناشئ أول ما فتح عيادة له ووالدته مريضة في دمشق وهو في بلد آخر، يحتاج لمبلغ معين، فقال يا رب أريد المبلغ الفلاني، فعلى خلاف العادة أتاه مريض وراء مريض.. إلى أن اجتمع المبلغ بكامله.
الإنسان أحياناً عليه دفع.. ليقل يا رب ليس عندي فأعطني، عوّد نفسك الطلب من الله فإذا رأيت الزوجة متصلبة برأيها فقل يا رب.. رأيت الشريك مزعج.. فقل يا رب لطفه.. وجدت الابن منحرف.. يا رب أدبه.. وجدت العمل مزعج.. فقل يا رب بدله لي، عوّد نفسك أن تسأل الله عز وجل كل شيء. قال يا رب إني لتعرض لي الحاجة الصغيرة أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك ؟ فأوحى الله تعالى إليه، لا تسل غيري.
أحياناً الإنسان مع أخيه المؤمن يقول إكراماً له: إياك أن تسأل أحداً غيري، كلما سنحت لك حاجة تعال إلي وخذها مني، هذه منتهى المودة، فإنك إذا أحببت إنساناً حباً شديداً، فإنك لا ترضى أن يبذل ماء وجهه لغيرك، فإنك تقول له إياك وأستحلفك بالله أية حاجة تعرض لك فأَتِ إلي، وكأن الله عز وجل لشدة حرصه علينا وحبه لنا قال لا تسأل غيري.
يُحكى عن حماد بن مسلمة أنه قال، كان في جواري امرأة أرملة لها أيتام، وكانت ليلة ذات مطر، فسمعت صوتها، تقول يا رفيق أُرفق بحالي، قال فخطر ببالي أنها أصابتها فاقة، فصبرتُ حتى احتبس المطر، فحملتُ معي عشرة دنانير، وقرعت عليها الباب، فقالت: حماد بن مسلمة؟ " يبدو أنه معروف بالصلاح " فقلت نعم حماد، كيف الحال، فقلت في خير وعافية، احتبس المطر ودفي الصبيان، فقال خذي هذه الدنانير وأصلحي بها بعضَ شأنك.. عندها بنية صغيرة، صاحت هذه البنية، لا نريد يا حماد أن تكون بيننا وبين الله، ثم قالت لأمها لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت أن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق.
أحياناً ينالك الخير من الله مباشرة ففيها عز، لا أحد له عليك مِنَّة وأحياناً أنت تشتكي، فإذا اشتكيت لمؤمن قد يرّق لك قلب هذا المؤمن لكن الآن سيأتيك العطاء لا من الله مباشرة عن طريق هذا المؤمن فإذا اشتكيت إلى كافر يشمت بك وقد يعطيك، لكن هذا منتهى الإهانة أن يعطيك عن طريق كافر، فإذا كان هناك منظر يهز أعمق مشاعري أن أرى مؤمناً يتذلل أمام كافر، يبذل ماء وجهه، يتشكى، يتطامن يتضعضع، والآخر يشعر أنه لو الإيمان ينفع لما اشتكيت إلي، كأنه يشمت بك.
فمن اشتكى لمؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، وأرقى أنواع الشكوى أن لا تشتكي..
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾
(سورة يوسف)
أحدهم شعر بآلام بجسمه آلام لا تحتمل، لو قال لزوجته أو لبناته أو لأولاده، فإنهم يتعاطفون معه ويتأثرون، من يستطيع أن يوقف هذا الألم ؟ الله وحده.
هناك أشخاص يصبرون يكابرون، لا يحبون أن يُشركوا أحداً في مصيبتهم، هذا مستوى من المستويات، ولكن لا مانع إذا اشتكى الرجل لزوجته، هذا ليس موضوع حلال وحرام، ولكن هذا كلما رقت النفس وشفت، ترى أن الله عز وجل هو وحده يُشتكى إليه، " قال يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال منك ؟ قال لا من الله، قال علمه بحالي يغني عن سؤالي ".
فالله يراك، ويعرف وضعك ودخلك يعرف ألمك يعرف مرضك يعرف مشكلتك مع زوجتك، يعرف مشكلتك مع شريكك، يعرف بعد بيتك، يعرف سوء الموصلات، يعرف أنك أوصلت فلان والوقود غالٍ.
فالله يعرف كل شيء. فالله يقدّر الليل والنهار، فكلما شفت نفسك وكلما أقبلت على الله تستغني به عما سواه، تشعر بعزة النفس فالمؤمن يمتلئ عزة يمتلئ إيماناً وغنى ونشوة وعزة وكرامة.
تحدث لي أن شخصاً مهماً يدنّي نفسه لعرض من الدنيا قليل، فمرة نظرت فوجدت أمام أحد المصارف ازدحام كبير، أكثر من خمسمائة شخص الساعة الثانية والنصف، بأشد أيام الحر، فسألت ما القصة، قالوا هناك تسجيل على السيارات، الساعة السادسة مساءً، فهم واقفون من الساعة الثانية بدورهم.
الإنسان أمام مصالحه وأمام المكاسب الدنيوية يتجشم المشاق، لكن أمام عباداته وأمام الأعمال الصالحة، فدائماً يميل إلى الراحة والى الكسل، " قالت لأمها يا أمي، لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت بأن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق ". هناك دعاء بهذا المعنى " يا رب ارحمني رحمة من عندك "، من عند الله مباشرة، أحياناً ربنا يؤدب ولكن تأديب فيه ستر، آلام داخلية والمظهر ليس به شيء، وأحياناً مرض جلدي كلما التقيت مع إنسان " يقول لك خيراً إن شاء الله ما هي القصة، أين تعالجت، أنت تريد بالناقص كلمة، يعطيك الناس كلمة زائدة، أحياناً الإنسان لا يحب أن تنتشر مشكلته بين الناس، ولكن الله أحياناً يرسل مشكلة من شأنها أن تنتشر، وأحياناً ربنا يؤدب الإنسان تأديباً داخلياً، تأديباً مباشراً
" يا رب اغفر لي مغفرةً من عندك "
أي يا رب إذا أردت أن تؤدبني فأدبني سراً، أي بينك وبين الله "، كيف ترى، هذا العقاب من هذا العمل..
حدثني شخص أثق بإيمانه وأعلم أنه يغض بصره عن محارم الله سافر إلى أوربا، قال في مطار لارنكا في قبرص، طائرة سويدية نزل منها نساء بزي واحد وعدد كبير جداً، قال كيف خانتني عيني ونظرت لا أدري، وبعد ذلك ركب سيارة أجرة ثم دفع للسائق أجرة بعملة أجنبية، فالسائق ساقه إلى مخفر شرطة، فدخل وتكلم مع عناصر الشرطة، خرج اثنان فأخذوه ووضعوه في قفص صغير، هو شخصية مهمة جداً وذاهب إلى مؤتمر ويتقن لغتين، فما هذا الذي وقع فيه، قال والله بكيت، فوقع في قلبه نداء " لماذا نظرت إليهن ".
فأحياناً الله عز وجل يغفر لك مباشرة من دون سجن ومن دون إهانة وأحياناً هناك عذاب مهين.
مرةً رأيت في الطريق شخصاً يرتدي أجمل الثياب وعمره من فوق الخمسين سنة، تقاوّل مع الشرطي، من أجل المرور، فجاء الضابط فلطمه لطمتين على وجهه، فالآن كلما أذكر المشهد أمام الناس يرتدي بدلةً كحلي وأزرار معدن وأنيق جداً، قلت إن الله عز وجل عنده عذاب مهين وعنده عذاب أليم وعنده عذاب عظيم، وذلك في الآخرة، بالدنيا عذاب أليم عذاب مهين، هناك آلام للسرطان لا تحتمل، وآلام نوبات الرمل لا تحتمل، فالله قال:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ﴾
المس عندما يلمس الإنسان المكواةَ احتياطاً يبلل يده بلعابه ويضع إصبعه على المكواة بأقصر زمن ممكن وبأبعد مكان ممكن، هذا هو المس، فربنا إذا مسنا بألم لا نحتمل فكيف إذا سلطه عليه، فالإنسان ضعيف.
بعضهم تسمو هممهم فلا يطلبون من الله إلا الحوائج النفيسة يقولون يا رب ارزقني الجنة، يا رب ارزقني أن أعرفك، يا رب لا تمتني قبل أن ترضى عني، دائماً طلباتهم متعلقة بالجنة والمعرفة وفهم القرآن وإتمام التفسير، وهناك أشخاص يقولون يا رب يخرج المستأجر من داري، يا رب.. فناس يطلبون أشياء نفيسة وناس يطلبون أشياء خسيسة، هذا اجتهاد.
هناك من يقول " لا أطلب من مولاي غير مولاي، وأما الحقير أطلبه من الحقير " أي لا أطلب من الله إلا الله، وإذا كان شيء حقير أطلبه من إنسان عادي.
يُحكى أن امرأة يحيى بن معاذ قالت ليحيى لقد رأيت العجب العجاب إن بنيتي طلبت مني شيئاً تأكله مع الخبز، فقلت لها سلي من الله قالت ابنتها " إني أستحي من الله أن أسأله ما آكل " هذا اجتهاد آخر، لك أن تأخذ بالأول أو بالثاني، ولكن الحديث الشريف:
((عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ ))
وهناك تعليق، أن هذه الصبية الصغيرة تستحي أن تسأل الله مباحاً وهذا الشيخ الطاعن في السن لا يستحي أن يعصي الله.
والله هناك منظر لا يصدق إنسان في الستينات يلعب الطاولة في القهوة تارك للصلاة، وإنسان متصابٍ بالخمسينات يتزيّن أمام الفتيات أو واقف على محل أو على شرفة أو على طريق ينظر إلى النساء أو على مقهى رصيف جالس ينظر إلى النساء، شيء عجيب، قال عليه الصلاة والسلام في بقية هذا الحديث:
((... وأُبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد))
إن الله عز وجل يرزق الأرواح والسرائر كما يرزق الأشباح والظواهر، أؤكد لك إذا أنت صليت صلاة صحيحة، أو إذا أكرمك الله بالحج مثلاً، وقف في عرفات وبكى حتى انتشى، يبقى أحياناً شهراً في نشوة هذا البكاء، أو هذا القرب أو هذه الرحمة، إذا صلى فرض صلاة وشعر أن هذه الصلاة جيدة، هذه الصلاة التي أرادها الله عز وجل شعر بخشوع فتح الله عليه في فهم ما تلا من قرآن، هذه أرزاق، إذا صام رمضان صياماً مقبولاً وشعر أن صيامه كان صحيحاً، ليس فيه معاصيٍ، كان منيباً إلى الله فيه، وصلى التراويح بنشاط، يقول لي بعض الإخوة الأكارم لو كان التراويح خمسين ركعة نحن في سرور طبعاً صيامه صحيح مستقيم أثناء النهار، أكل قليلاً، نام قليلاً عصراً، جاء إلى التراويح نشيط.
قال إن الله يرزق الأرواح والسرائر كما يرزق الأشباح والظواهر وأرزاق القلوب الكشوفات والمعاني كما أن أرزاق الأجساد الغذاء والأحاظي، جمع حَظوةً، الكشوفات أي أن المؤمن يرى مالا يرى الآخرون عنده رؤيا، عنده شعور، يعرف جوهر الحياة، يعرف أين كان وإلى أين المصير، يعرف أثمن ما في الحياة.
أحياناً الإنسان يضيع وقته بأشياء تافهة وأحياناً يمضي وقته بأشياء ثمينة، وهذا أيضاً رزق، هناك نقطة ثانية، وهي عكس الرزق، فكما أن الله عز وجل يضيق على العبد رزقه، قال الله تعالى:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً(20)﴾
(سورة الفجر)
تراه ذكياً، يحمل شهادة عليا ودخله قليل، ليس له وظيفة ولا عمل هذا بتقدير الله عز وجل، فكما أن الله عز وجل، يضيّق على العبد رزقه المادي أحياناً يضيق عليه رزقه الروحي، يصلي صلاة لا معنى لها جوفاء ليس فيها خشوع، يشرد في الصلاة، قال لي شخص، إذا كنت غلطان بالمحاسبة لا أذكرها إلا في الصلاة، هناك أمر غير مسجل يصلي فيلقاها في الصلاة، قال لي بالصلاة كل المشكلات تأتي إلى خاطري، معناها هناك سد، كما أن الله عز وجل يضيق على العبد رزقه المادي أحياناً يضيق عليه رزقه الروحي، هذا التضييق له تفسيران، الأول أن هناك معصية هناك مخالفة هناك تقصير هناك حقوق لم تؤدِها، هذا الحجاب، كل معصية لها حجاب، وهناك تفسير آخر، قد تكون مستقيماً على أمر الله لكن هذا التضييق سببه التعطيش وصلتَ لمرتبة أنت راغب بأن تبقى فيها، والله عز وجل أراد لك أن ترتقي عن هذه المرتبة، فكيف تنتقل من مرتبة إلى مرتبة، يحجب الله عنك الأحوال والمواجيد والتجليات، تضج تقلق، تخاف تشمر وتعمل الصالحات، تصعد درجة، تعيش فيها فترة لا بأس بها ثم تألفها وترضى بها، لكن الله لا يرضى لك هذه الحالة المستمر، يحجب عنك الأحوال، فلا صلاتك صلاة ولا ذكرك ذكر ولا تلاوتك تلاوة، قلب متصحّر، مالٌ فيه ضيق واشمئزاز..
هو مستقيم، ولكن لا يوجد أحوال ولا سرور ولا تجليّات ولا مشكلة تنطلق إلى العمل الصالح فترفع مستوى عملك الصالح فتقفز قفزة إلى أن تبلغ أعلى درجة أرادها الله لك بهذه الطريقة، إذاً هذا تفسير قد يضيق الله على عبده رزق الأرواح.
قال أحدهم دخلت على داوود الطائي فرأيته منبسطاً، أحياناً ترى إنساناً طليقاً مسروراً مرحاً وجهه فيه تألق، على خده تورد في عينيه لمعان، طليق اللسان، حركاته خفيفة، هذه صفات المنتشي دائماً وقبل أن أتابع القصة لي هذه الملاحظة، أنت كمؤمن، إن سعدت بقربك من الله عز وجل فأنت مؤمن ورب الكعبة، إذا كانت نشوتك وسرورك وطلاقتك وراحة نفسك وجدتها بإقبالك وقربك، فهذه علامة إيمانك، أما إذا تألقت عيناك وتورد خداك وانطلق لسانك لأرباح حققتها أو لمكسب وصلت إليه فهذه علامة أخرى، فمن أنت ؟ أَمِنْ أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ إذا سرك عطاء البشر فأنت من أهل الدنيا، أما إذا سرك عطاء الله عز وجل فأنت من أهل الآخرة.
قال دخلت على داود الطائي فرأيته منبسطاً، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضاً، المؤمن إذا أنكر قلبه وضعفت صلته بالله عز وجل يصبح كاليتيم، تراه هادئاً، خير إن شاء الله، ما في شي، قال الحسن البصري: إذا تلوت القرآن وذكرتَ الله عز وجل وصليت ولم تجد شيئاً فاعلم أنك محجوب، قال الله تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
(سورة المصففين)
ذاك حجاب الآخرة، ولكن في الدنيا حجاب، إذا شعرت أنك محجوب انتبه وابحث عن السبب، لعلك مقصر لعلك معتَدٌّ بنفسك لعلك مستغنٍ عن الله لعلك وقع في نفسك سوء ظن بالله وأنت لا تدري لعلك وقعت في سوء ظن بالنبي عليه الصلاة والسلام وأنت لا تدري، فإذا شعرت أن بينك وبين الله حجاب فابحث عن السبب وإياك أن يزداد الحجاب، والحجاب يرق ويثخن، فإذا كان الحجاب كثيفاً فالمشكلة خطيرة جداً، كما قال سيدنا عمر " تعاهد قلبك "، يعني راقب قلبك راقب أحوالك راقب طمأنينتك، لو أن إنساناً استيقظ بعد صلاة الشمس فإذا لم يشعر بانقباض فحالته خطيرة جداً، لكن إذا شعرت بانقباض شديد وألم وشعور بالخزي والعار من الله عز وجل وشعور بالضياع أما إذا قال مثل بعضها، شو صار، أيضاً هي مشكلة كبيرة جداً،
" دخلت على داوود الطائي فرأيته منبسطاً، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضاً فقلت أي شيء حالك، فقال سقاني البارحة شرابَ أُنسِهِ فأردت أن أجعل اليوم يوم عيد "، يعني صار له صلة بالله أقبَلَ على الله، شعر بنشوة الاتصال، هذا أجمل ما عنده فقال أردت أن أجعل ذلك اليوم يوم عيد لذلك إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أنْ هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
نشوة المؤمن في تقربه من ربه، أقول لكم هذه الكلمة، يعني إذا سعد الإنسان في الدنيا فهذه علامة خطيرة، يجب أن تسعد بالله، وحقيقة ثانية لا يمكن أن تسعد إلا بالله، إذا سعد إنسان بما سوى الله !! فالقرآن أليس كلام الله ؟ ربنا عز وجل قال:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(126)﴾
(سورة طه)
سأل رجل ما بال الملوك، كل شيء عندهم، الأغنياء، فأجاب عالم آخر قال: ضيق القلب، المعيشة الضنك للأغنياء أو للأقوياء ضيق القلب في قلوبهم من الضيق والتبرّم والشقاء ما لو وزع على أهل بلد كفاهم، لذلك فالله عز وجل قد يعطيك الدنيا ويأخذ منك راحة قلبك، وقد يعطيك راحة القلب ويسلب الدنيا منك، فالعبرة أن يكون قلبك غنياً بالله عز وجل.
قال سقاني البارحة شراب أنسه فأردت أن أجعل من ذلك اليوم عيداً فقلت أتأذن لي أن أحمل لك طعاماً حتى تفطر، فقال لست أشير إلى هذا وشتان بين شراب يدار على الكف وشراب يكون في موجب لطف وروية كشف، هناك شراب مادي وهناك شراب معنوي.
إذاً الرزاق هو الله عز وجل، والآن ما علاقتنا بهذا الاسم، وهذه مهمة جداً، أول شيء أن ترضى بقسمة الرزاق بِدأً من أمك وأبيك أنت ابن فلان وفلانة، هذا تقدير الله عز وجل، أنا أبي ليس مثل أبي فلان انظر إلى أبي فلان راق جداً، أخلاقه عالية أنا أبي شرس أبي قاس أبي جاهل، أبي فقير، انظر إلى رفيقي أبوه غني أبوه مثقف ثقافة عالية، أبوه راق.
يجب أن ترضى بوالديك لأن هذا منتهى الحكمة، ويجب أن ترضى بشكلك، فالله أقامك بهذا الشكل، طول زائد، قصر، وسامة، دمامة صحة، ضعف، هكذا أقامك الله، فإذا اعترضت على الله فلست مؤمناً يجب أن ترضى عن اختيار الله لك من أي رجل وامرأة كان وجودك وبأي شكل كان وجودك، وعن رزقك وعن زوجتك، فالله اختار لك هذه الزوجة، أكثر الأشخاص غير المؤمنين يمضي كل حياته في عذاب يقول ما توفقت في هذه الزوجة، فالله اختارها لك، علم فيك خيراً فضمها إليك لعلك تهديها إلى الله، انظر إلى المؤمن عنده حسن ظن بالله، لو أن الله ساق له ولد سيئ لا يتبرم، يقول لك الله عز وجل هكذا اختار، لو زوجه امرأة سيئة، وفي القصة.. قال له أحدهم طلقها قال والله لا أطلقها فأغش بها المسلمين.
هذا يعني أن ترضى عن رزق الله لك، والمعنى الثاني أن تجعل يدك على مالك وأن تجعل مالك خزانة ربك، يدك على المال يد الأمانة لا يد الملك، قال الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67)﴾
(سورة الفرقان)
إذاً أول معنى من معاني الرزق أن ترضى بما قسمه الله لك، وإذا رضيت بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، المعنى الثاني، أن تجعل مالك مال ربك وأنت عليه أمين ولستَ مالكاً
محمد راتب النابلسى