الشهيد
مع الدرس الرابع والستين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو الشهيد.. وقد ورد هذا الاسم في الأحاديث الصحيحة التي عدد بها النبيّ صلّى الله عليه وسلَّم أسماء الله الحُسنى.
فالشهيد ؛ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى، والنبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - وهو سيِّدُ الخلق، وحبيبُ الحق سمَّاه الله في كتابه الكريم شاهدًا وشهيداً فقد قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)﴾
(سورة الأحزاب)
وقال تعالى:
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً (41)﴾
(سورة النساء)
والذي يقدِّم أثمن ما يملك في سبيل الله، وفي ساحات القتال، سُمي شهيدا.. والجود بالنفس أقصى غاية الجود، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حينما حدّثنا عن بذل المال والنفس في سبيله قدَّم المال على النفس فقد قال تعالى:
﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾
(سورة الأنفال)
في معظم الآيات التي تحدَّثت عن البذل، جاء بذل المال مقدَّماً على بذل النفس لأنَّه أسهل، وفي آية واحدة، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾
(سورة التوبة)
هنا تقديم أهميَّة، قضيَّة بيع قطعي فبدأ بالأهم فالمهم.
أيُّها الإخوة القراء... معنى شهيد صيغة مبالغة لاسم الفاعل، شَهِد، يشهد، شاهد.. الشهيد صيغة مبالغة اسم الفاعل فمعنى شَهِدَ أي حضر، شهد هذا الحفل فلان أي: حضره فلان. شهد هذه الصفقة فلان أي: حضرها فلان. شهد هذه الوليمة فلان أي: حضرها فلان. فالشهيد هو الذي يشهد أي: يحضُر.. والذي يحضُر يعلَم، والذي يعلَم يُعلِم.
فهناك معان ثلاثة تُستفاد من كلمة شهيد ؛.. حضر، وعَلِم، وأعلَم. فالله سبحانه وتعالى بهذا المعنى شهيد، مع كل مخلوق أجل، مع كل مخلوقٍ شهيد بعلمه فقد قال تعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
(سورة الحديد)
﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
إن كنتم في أطباق الجو، أو تحت أمواج الماء، أو في الصحراء، أو على ظهر اليابسة، في المدن، في السفر، أين ما كنت الله معك. قال العلماء: هذه معيَّةٌ عامَّة، أي أنَّ الله جلَّ جلاله مع المخلوقات بعلمه.
وقالوا: وهناك معيَّةٌ خاصَّة فقد قال تعالى:
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
(سورة الأنفال)
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾
(سورة البقرة)
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
(سورة الأنفال)
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
معيَّةٌ عامَّة.
﴿ واعلموا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
معيَّةٌ خاصَّة. معيَّة الله الخاصَّة أي: معهم مؤيِّداً، وناصراً، وحافظاً، وموفِّقاً. إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ فلا أحد معك، أقرب الناس إليك يتنكَّرون لك، لكنّ الله معكم مؤيِّداً، معكم ناصراً، معكم موفِّقاً، معكم حافظاً، فقد قال تعالى:
﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾
(سورة يوسف)
في الحديث القدسي:
(( عبدي أعطيتُك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال يا ربّ لم أُنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي. قال ألم تعلم بأنّي أنا الرزَّاق ذو القوَّة المتين، إنَّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم "، يسأل عبداً آخر: " أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال يا ربِّ أنفقته على كلِّ محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنَّك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين. قال: عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك. ))
فالله عزَّ وجلَّ يكون مع المؤمن حافظاً ومؤيِّداً وناصراً وموفِّقاً، وما توفيقي إلا بالله.
﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾
وقد قال تعالى:
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
(سورة آل عمران)
وقال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)﴾
(سورة الأنفال)
أيَّدك.. ونصر. وحفظ.. ووفَّق، هذه هي المعيَّة الخاصَّة، إلا أنَّ المعيَّة الخاصَّة مشروطة فقد قال تعالى:
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
(سورة المائدة)
هناك ثمن.
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾
إذاً ؛ معنى شهيد أي: معك.. يا موسى أتُحبُّ أن أكون جليسك ؟ قال كيف ذلك يا ربّ وأنت ربُّ العالمين ؟! قال: أما علمت أنني جليس من ذكرني، وحيث التمسني عبدي وجدني.
هو معك، إن ذكرته هو معك، [وكن مع الله ترَ الله معك / وإذا أعطاك من يمنعه / واترك الكُلَّ وحاذر طمعك / ثم من يعطي إذا ما منعك.
الشهيد مع كل مخلوق بعلمه، ومع المؤمن بتوفيقه، وحفظه، وتأيِّيده، ونصره.. فهو شهيد، قال تعالى:
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)﴾
(سورة طه)
فرعون، كان قَتْلُ الإنسانِ عنده كقتل ذبابه، ولكن الله تعالى قال لكل من سيّدنا موسى وأخيه هارون:
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾
(سورة طه)
أنا معكما..
﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾
وكل مؤمن إن شعر أنَّ الله معه، يشعر بقوَّة لا حدود لها.
قال الصديّق لرسول الله - صلّى الله عليه وسلَّم - وهما في الغار: يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا. قال: يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟ وهي معية الله عزَّ وجلَّ، الإيمانِ.. أفضل الإيمان ؛ أن تعلم أنَّ الله معك حيثُ كنت.
إذاً الشهيد هو معك.. معك عِلماً إذا كنت مخلوقاً عاديّاً. ومعك حافظاً، وناصراً، وموفِّقاً، ومؤيِّداً، إن كنت مؤمناً، أو صابراً، أو متَّقياً.
من لوازم الشهيد ؛ أنَّه يعلم.. ومن لوازم الشهيد ؛ أنَّه يُعلِم. حَضَرَ، عَلِم، يُعلِم.. هو حاضرٌ مع كلّ مخلوق، في كلِّ زمانٍ ومكان، وهو عالمٌ به.
قال بعض العلماء: " الشهيد ؛ الأمين بشهادته، الأمين في أداء شهادته " أي شهادة دقيقة جداً، فأحياناً الإنسان قد يحضر ويقول لك: والله لم أشعر ماذا فعلوا، كنت معهم ولكنَّهم غافلوني وراغوا. إذا كان الله عزَّ وجلَّ شهيدًا فلا تخفى عليه خافية، ولا حركة، ولا سكنة، ولا خاطر، ولا صراع أبداً فنفوس العباد مكشوفةٌ له، فقد قال تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
(سورة الأنفال)
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾
(سورة ق)
وبعد، فإنّ المعنى الفرعي الآن: الشهيد ؛ الأمين في شهادته، أي: لا يغيب عن علمه شيء، البالغ الغاية في علمه بالأمور الظاهرة. فهو شهيد حاضر، وشهيد يَعلم، والآن الشهيد يُعلِم.. فقد قال تعالى:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾
(سورة آل عمران)
هنا السؤال كيف يشهد ؟.. إنسان من جنس البشر، يشهد لك بلسانه ؛ فيقول لك: أنا كنت في المكان الفلاني، وفعلاً حدث ما حدث، يشهد لك بلسانه ؛ ولكنَّ الله جلَّ جلاله كيف يشهد لك ؟
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾
قال: عرفت الله من نقض العزائم. الإنسان الغافل الشارد المشرك ؛ يأخذ بكلّ الأسباب ويعتمد عليها، ويظُنُّ أنَّ الأمور تجري على ما يريد، ثم يفاجأ أنَّ الله أبطل كلَّ مسعاه.. عرفت الله من نقض العزائم.
ألا ترون في كلّ مكانٍ وزمان ؛ أنَّ الله يشهد لخلقه:
﴿ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾
أي بالتعبير المألوف - مع الله لا حيلة لِذَكِيّ -، النجاح بالتوفيق لا بالذكاء. نجاح الإنسان بتوفيق الله، وتوفيق الله باستقامته على أمره، فالله يشهد.
وأمثلة على ذلك... أب توفّي وترك خمسة أولاد، أكبر الأولاد أخذ كلَّ الثروة، كيف يشهد الله:
﴿ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾
يوفِّقُ المظلومين ويمحق الظالم، أما بحسب قوانين الأرض، فالذي استولى على كل المال ينبغي أن ينمو كلَّ هذا المال عنده، والذي حُرِمَ منه، ينبغي أن يعيش فقيراً بائساً، يشهد الله للناس أنَّ الأمر بيده.
هو أخذ المال كلَّه.. أتلف الله المال وأتلف صاحبه، والذي حُرِمَ منه وليس له إلا الله وفَّقه الله، وكم من أخٍ استولى على كلِّ الثروة، ثمّ عمل عند إخوته فيما بعد أجيراً فقد أتلف الله ماله كلّه !! وعلى هذا فقس، يشهد الله لخلقه:
﴿ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾
فالأمر بيده.
تجد الأقوياء.. يأتيهم بأس الله جلَّ جلاله ويدمِّرهم أحياناً كثيرة والضعفاء ينصرهم. الأغنياء إن أدَّوا زكاة مالهم، يبارك لهم في مالهم، إن لم يؤدُّوا الزكاة يمحق مالهم.
الإنسان أحياناً لا يملك من الدنيا شيئاً، لكن يملك استقامته، فالله عزَّ وجلَّ يكرمه ويعلي مكانه، يرزقه، ينصره، يؤيِّده. فعندما ينصر ربنا إنساناً ضعيفاً وفقيراً، نَصْرُ اللهِ لهذا الضعيف الفقير شهادةٌ من الله لخلقه ؛ أنَّ الأمر بيده، ليس بالمال، ولا بالسلطان، ولا بالذكاء، لا بالحسب، ولا بالنسب، ولكن بطاعة الله عزَّ وجلَّ.
وهأنذا أقدّم معنىً دقيقاً.. هناك بالحياة قواعد ماديَّة، هذه القواعد الماديَّة تخرق، فمثلاً: حسب إجراءات الآلة الحاسبة أربح - مئة ألف زائد ثمانية عشر بالمئة ؛ فالمجموع يساوي مئة وثمانية عشر - دفعتها مئة فقبضَّها مئة وثمانية عشر، وهذه حسابات على الآلة الحاسبة، ولكن الله قال:
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
(سورة البقرة)
أقرضت إنساناً مئة ألف.. وبحسب التضخُّم النقدي رُدّت لك أقلّ بثمانية عشرة بالمئة، ردّت لك أثنين وثمانين ألفًا، لكن ربنا عزَّ وجلَّ بالطافه الخفيَّة يحفظ المال، ويُنمِّي المال، ويحفظ صاحب المال، يحفظ له أهله، وأولاده، وصحَّته، ويؤيِّده، ينصره، يوفِّقه، فقد قال تعالى:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾
(سورة البقرة)
معناها أنَّ الله شهيد أي: يشهد. أي: يحضر، وحاضر، وعالم والآن يُعلم، يُعلمنا أن الأمر بيده، لا بذكائكم ولا بأموالكم ولا بأحسابكم ولا بأنسابكم ولا بتجمعاتكم ولا بكل ماتملكون، الأمر بيد الله، الله مع المحسن ومع الطائع ومع المستقيم ينصره ويؤيده لأنه شهيد ويشهد لنا.
يعني أقرب الأمثلة التاريخية.. النبي - عليه الصلاة والسلام - أخرجه قومه إلى المدينة ؛ فقريش أقوى قبيلة في الجزيرة.. وكذلك فقريش لديها أموال وفيها أبطال وفيها عتاد وفرسان وعدد، والنبي ضعيفٌ مستضعف.
لم يستطع إنقاذ عمار بن ياسر من التعذيب يقول:
(( صبراً آل ياسر إنَّ موعدكم الجنة.))
لايستطيع أن يتدخل، وعندما هاجر هُدر دمه، لمن كانت العاقبة ؟
فما معنى أنَّ الله شهيد ؟ أي أنَّ قريش بخيلها وصولتها وقوَّتها وفرسانها ومؤامراتها، وشدَّة بأس رجالها ؛ دمَّرها الله عزَّ وجلَّ، ونصر النبيّ -عليه الصلاة والسلام -.. وهذا الشيء يتكرر.
أي أنَّك إذا أردت أن تكون أقوى الناس، فتوكَّل على الله. فالله عزَّ وجلَّ شهيد.. حاضر، عالِم، مُعلِم.. شهيد، بشهد لك.
فمثلاً.. تجد شاباً مستقيمًا يعرف الله ويخافه، ويتحرَّى الحلال، ويرجو رضى الله، ويخاف سخطه، لا يعصيه، يغُضُّ بصره، يضبط لسانه، يضبط سمعه وبصره، لكنَّه فقيرٌ، وتجد شاباً آخر ذا قوَّة ومنعة ومال وأهل ودعم، الله عزَّ وجلَّ ينصر المستقيم، ويُدمِّر المنحرف. ما معنى ذلك ؟ أنَّ الله يشهد.. ألم يقل الله عزَّ وجلَّ:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
(سورة الجاثية)
شيء دقيق المعنى جداً.. فكلام ربنا كقوله تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
(سورة النحل)
فهذا قانون سماوي، أيها القارىء الكريم، زوال الكون، أهون على الله من أن يُضيَّع مؤمناً. وزوال الكون، أهون على الله من أن يتبدَّى لكم، أنَّ هذا الإنسان القوي الكافر المنحرف، الذي يخطط لمستقبلٍ رائع. تحقيق ما خطط له يتناقض مع وجود الله - لذلك يفاجأ الإنسان بأحداث مذهلة.
فقِلاع عمَّرت سبعين عاماً، تهاوت كبيت العنكبوت. أليس هذا من فعل الله عزَّ وجلَّ ؟ ليريكم آياته ؟ الله شهيد يشهد لنا.
﴿ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ﴾
العوام يستخدمون هذه الكلمة: " ما في غير الله.. الله كبير "، فهذه الكلمات لها مدلول عميق.. يقولون لا إله إلا الله، هو المعطي، هو المانع، هو القابض، هو الباسط، هو المعز، هو المذل، هو الرازق هو الحافظ، إلخ... فهذه الكلمات لها مدلول عميق، فليس هناك سوى الله، فهناك إنسانٌ قويٌ جداً ويؤتى من مأمنه.. كقول الله تعالى:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
(سورة البروج)
الشهيد: هو الحاضر الذي لا يغيب عنه شيءٌ في ملكه.. فقد قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾
(سورة فصلت)
والله قد قال لي ذات مرَّة أحدهم كلمة أعجبتني كثيرا قال: الحمد لله على وجود الله ووجوده يفوّت على أهل المكر مكرهم، فأحياناً تجد الإنسان لئيماً يتجاهل إمكاناتك، يتجاهل عطاءآتك، يتجاهل ميّزاتك، يضايقك، ولكن الله شهيد، اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، إن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تُصب أهله فأنت أهله.
إذا كنت تعلم أنَّ الله يعلم، فليست هناك مشكلة إطلاقاً. يكفيك أنَّ الله يعلم.. فأحياناً يكون للإنسان عملٌ عظيمٌ لكنَّه لا يظهر. ويُعتَّم عليه بشكل مقصود، ولكن الله شهيد. أهلا بمن خبَّرني جبريل بقدومه قالها النبي عليه الصلاة والسلام لصحابي، فقال: أومثلي!! قال: نعم يا أخي خاملٌ في الأرض، علمٌ في السماء.
فإذا كان الله شهيداً، فليست هناك مشكلة... الحمد لله على أنَّه يشهد كلّ شيء.
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
فلو فرضنا موظفاً.. والمدير العام الذي بيده ترفيعه، وزيادة رواتبه، ودعمه، وتقليده المناصب العليا، يعلم إمكانات هذا الموظَّف، ويعلم عطاءآته، ويعلم دقَّته في عمله، فإذا كان الآذن لا يعرف.. فخيرٌ إن شاء الله عرف أم لم يعرف فذلك لا يضيره في شيء.
فأجمل كلمة قالها سيِّدنا عمر - رضي الله عنه -عندما جاءه رسولٌ من معركة نهاوند، فقال: حدِّثني ماذا حدث ؟ قال له والله مات خلقٌ كثير. فقال له: من هم ؟ فذكر له بعض الأسماء. فقال له: من أيضاً؟ فقال له: إنَّك لا تعرفهم. فبكى عمر وقال: ما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعلمهم.
أنت عملت عملاً طيِّباً، والناس لم يقدِّروك.. - ولم يقدِّروا عملك فخيرٌ إن شاء الله.
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
فعلامة المخلص ؛ أنه لا يبحث عن تقدير الناس، ولا عن انتزاع إعجابهم.. لا بل يهمّه أنَّ الله يعلم وانتهى كلَّ شيء، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.
هو شهيد حاضر ويعلم... قال العلماء: إذا كان العلم مطلقاً فهو العليم.. شهيد يعني عليم علماً مطلقاً، أما إذا أُضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، أما إذا أُضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.
الله يشهد ما ظهر، وخبير بما بطن، ويعلم ما ظهر وما بطن.
العلم مطلقاً شهيد، العلم مطلقاً عليم، العلم بظواهر الأشياء شهيد، وببواطنها خبير.
بعض العلماء يقول: " الشهيد ؛ الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعرُب عنه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء، مطّلِعٌ على كلِّ شيء، مشاهدٌ له، عليمٌ بتفاصيله ".
فأنت أحياناً تلتقي مع مدير عام بمؤسسة يعرف الأمور الكبيرة، أما دقائق ما يجري فلا يعرفها، ويقول لك ليس عندي علم. لكن مقام الأُلوهيَّة يقتضي أن يعلم كلَّ التفاصيل، أدق أدق خواطر الإنسان يعلمها الله.
أحياناً الإنسان يعلن عن شيء ويُبطن خلافه. فيزوره شخص ويعلن أنَّ لهذه الزيارة سبب، كأن يقول: لقد بلغني عنك أنَّك مريض، ويكون قد أتى في الحقيقة لأن له ديناً عنده، وليطالبه به، فأظهر بذلك شيئاً وأخفى شيئاً آخر.. ولكن الله عزَّ وجلَّ يعلم السرَّ وأخفى، يعلم ما أعلنت، ويعلم ما أسررت، ويعلم ما خفي عنك.. ما خفي عنك أنت ذاتك والله سبحانه وتعالى هو الشهيد ؛ لأنَّه يشهد على الخلق يوم القيامة.
وبعد، فأحدث طريقة في التحقيق أن تصوِّر المخالف وأن تعرض عليه الصورة، فانتهى الأمر بذلك ولا يستطيع أن يتكلَّم بكلمة واحدة، يقولون له: أنت في الوقت الفلاني وفي الشارع الفلاني خالفت. فلو قلت لهم: لا.. لم أكن هناك. أظهروا لك صورة سيّارتك، وهذا هو التاريخ، وهذا هو الشارع. فينتهي كل شيء.. فإذا عُرض على الإنسان عمله مصوَّراً، يصمت..
فقال بعض العلماء: " الله شهيد، يشهد لعباده يوم القيامة، يُشهدهم أعمالهم ".. وهذا معنى جديد.. يُشهدهم أعمالهم فقد قال تعالى:
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)﴾
(سورة الإسراء)
تفضَّل هذه أعمالك، طلَّقت ظلماً، قبضت هذا المال ظلماً، دلَّست بهذه الصفقة، أخفيت هذا العيب، أكلت هذا المال ولا يحقُّ لك أن تأكله، سهرت في المكان الفلاني، أطلقت بصرك في المكان الفلاني، كل الأعمال، وبالتعبير الحديث أعمالك مسجَّلة على هيئة فيلمٍ ملونٍ وناطقٍ مع التاريخ والساعات، والمكان والزمان. تكلم..
﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾
هذا معنى جديد ؛ يُشْهِدكَ أعمالك يوم القيامة.
لذلك، إن علمت أن الله يراقبك ؛ فهذا أكبر دافعٍ لك على طاعة الله.. قال الله تعالى:
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)﴾
(سورة الأحزاب)
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)﴾
(سورة الحج)
بالمناسبة ؛ هل تصدق أيها القارىء الكريم أنه من أجل أن تعلم ؛ علْمُكَ أن الله يعلم؛ هو علَّة وجودك على وجه الأرض فقد قال تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾
(سورة الطلاق)
في الحقيقة ؛ أسماء الله تسعة وتسعون، لكنَّ الله اختار من أسمائه كلها اسمين العلم والقدرة. إن علمت أن الله يعلم: و أنه سيحاسب، وأنه قوي، لابد من أن تستقيم على أمره.
أنا أضرب أمثلة كثيرة ؛ ممكن وأنت راكب مركبتك، والإشارة حمراء، والشرطي واقف معه دراجة، وسيارة الضابطة واقفه فيها ضابط، والقانون صارم، والعقوبة شديدة، وأنت إنسان عادي ليس لك قوة.. هل يمكن أن تتجاوز الإشارة ؟ لا، فهذا شيء مستحيل، إن علمت أن الله يعلم، وسيحاسبك ؛ مستحيل أن تعصيه ؛ فإن عصيته فلضعف في علمك أنه يعلم، أو لضعف في علمك أنه سيحاسب، أما إذا أيقنت أنه يعلم و سيحاسب .
لا يمكن أن تعصيه فهذا المعنى الثاني.
لو حللت المعصية تحليلاً علمياً.. الإنسان يتجاوَز الإشارة الحمراء الساعة الثالثة في الليل يقول لك: لايوجد أحد لأن الذي يحاسبك لايعلم، وينطلق بسيارته غير عابىءٍ بالإشارة الحمراء إذا كان أقوى من الشرطي ومن رؤسائه، أما إذا كان ضعيفاً، والشرطي يقف أمامه، هل يستطيع أن يتجاوز الإشارة ؟ لا، هذا قانون نفسي.. أي أنت لو علمت أن الله يعلم، ولا تخفى عليه خافية.. وأنه سيحاسب - لا بدَّ من أن يحاسب - لا يمكن أن تعصيه، فالله عز وجل شهيد، حاضر، عالم، يُعْلِم.
ذُكِرَ اسم الشهيد في القرآن الكريم تسع عشرة مرة.. الله سبحانه وتعالى يقول في سورة النساء:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)﴾
(سورة النساء)
كل حادث، وكل أمر، الله عزَّ وجلَّ شهيد، ويعلم، وسيفصل بين خلقه يوم القيامة. فأحياناً يكون الإنسان طليقَ اللسان، ولديه قوَّة حجَّة؛ ولو بالباطل فيقنع الآخرين، مثل هؤلاءِ إذا كانوا منحرفين في حياتهم وكانوا معتدين على الآخرين ؛ الله عزَّ وجلَّ يسلبهم هذا السلاح، يقول تعالى:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾
(سورة يس)
شهيد الله عزَّ وجلَّ.. وقال تعالى:
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
(سورة فصلت)
وقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾
هذه أول آية.. أي هو رقيبٌ عليكم.
فبربِّكم، إذا كنت بحضرة إنسان من علية القوم، فهل تتكلَّم بأيَّة كلمة أمامه ؟ إذا زارك ضيفٌ من علية القوم، وهو شخصٌ محترمٌ، عالم، عميد الأسرة مثلاً، مكانته كبيرة، منصبه رفيع، أخلاقه عالية، أي أنه شخصٌ متفوِّق ؛ إن في علمه، أو في مرتبته، أو إلى آخر الصفات.. فهو ضيفك وأنت أمامه، فهل تتكلَّم بأية كلمة ؟ هل من الممكن أن تتكلَّم بكلمات بذيئة أمامه ؟ أيُمْكن أن تخاصم أهلك أمامه ؟ ممكن تُطلق لسانك بالسباب أمامه ؟ إنسان من جنسك ولكن له مكانة، فأنت إذا أيقنت:
﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾
وهو معك فلا يمكن أن تفعل، فأحد أكبر أسباب الانضباط شعور الإنسان أنَّ الله معه.. أفضل إيمان المرء أن يعلم أنَّ الله معه حيث كان.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾
أي كان رقيباً عليكم.
وفي آل عمران يقول تعالى:
﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)﴾
(سورة آل عمران)
بعضهم يقول لك: دبرت الأمر وعملت كل ما ينبغي وأوقعته فيها - لبسته إياها -، أخفيت عليه العيب، مرّتْ البضاعة بالرغم من العيب الخطير الموجود فيها ! يظن نفسه ذكياً، والله عزَّ وجلَّ:
﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾
﴿ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾
أي شهيد، حاضر، يعلم يُعْلِم، سيُجازي، فمعنى ذلك إنَّك لم تكن ذكياً.
والله آلاف الوقائع والحوادث، إنسان ظن أنَّ هذا العمل يخفى على الله فعله، وظن نفسه ذكياً ثم كُشف ودفع ثمنه غالياً، ولقي جزاء عمله، ودمَّره الله عزَّ وجلَّ، معنى ذلك أنَّه لم يكن ذكياً.
هناك شخص كتبت عنه الصحف منذ فترة، وعنده نوع من الدجل في علاقاته مع الآخرين، يبتزُّ أموالهم، ويعمل في الطب، ودخله كلَّ ثلاثة أيام مليون ليرة مقابل إجرائه لعمليَّات جراحيَّة كبيرة وضخمة، ثم كُشف، أي معنى ذلك إنَّه لم يكن ذكياً.
أقول هذا مراراً.. الانحراف عدوان ؛ فقد يستمر ذلك إلى حين، أما دائما فلن يستمر، لا بدَّ من أن يكشفه الله، وأن يلقى صاحبه جزاء عمله في الدنيا قبل الآخرة، وهذا من آيات الله، هذا من دلائل قدرته عزَّ وجلَّ، فقد قال تعالى:
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾
(سورة يوسف)
سيِّدنا عيسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام في سورة المائدة يقول الله سبحانه وتعالى سائلاً إيّاه ثمّ يجيب:
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)﴾
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾
(سورة المائدة)
في سورة النساء:
﴿رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)﴾
(سورة النساء)
فهذا محمد صلى الله عليه وسلّم، فبالطائف كذَّبوه، وسخروا منه، وردّوا دعوته، وأغروا سفهاءهم به، آذوه، وضربوه. وجاء بعد الطائف حادث الإسراء والمعراج، رفع الله نبيَّه إلى أعلى عليين، أعلمه أنَّه سيِّدُ الخلق وحبيب الحق.. قال تعالى:
﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾
(سورة الإسراء)
سمع دعاءك وأبصر ما جرى لك في الطائف، وقال تعالى:
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾
(سورة الأنعام)
أحياناً الإنسان يجهِّز شهوداً أقوياء، يقول لك: فلان يعرف الموضوع، وفلان كان حاضراً، وفلان معي منه إقرارٌ، وفلان كتب لي تصريحاً، ولكن هناك أقوى من كلِّ هذه الشهادات ؛ وهي أن يشهد الله لك أنَّك مستقيم.
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾
إذا شهد الله لك أنَّك على الحق هذه أكبر شهادة.
هذه الآيات أيُّها القارىء الكريم وردت في كتاب الله إنّها تسع عشرة آية ورد فيها إسم الشهيد..
تومىء إلى شهادة الله لهذا الإنسان:
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)﴾
(سورة يونس)
وأنت تصلِّي يعلم الله أنَّك تصلّي، وتقرأ القرآن، تسبِّح، تذكر، تستغفر، تغُضُّ البصر، تأمر بالمعروف، كلُّ عملك في علم الله، وهو يشهد عملك.. لكن الله يشهد بما أنزله إليك، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون.
﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾
يكفي أنَّ الله يشهد، وفي سورة يونس:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)﴾
(سورة يونس)
وقال تعالى:
﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)﴾
(سورة يونس)
وقال تعالى:
﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)﴾
(سورة التوبة)
وقال تعالى:
﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾
(سورة الأنعام)
أي يشهد لما ظهر، ويعلم لما ظهر ولما بطن.. وقد قال تعالى:
﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
(سورة التوبةالآية: 105)
وقال تعالى:
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)﴾
(سورة الرعد)
وقال تعالى:
﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)﴾
(سورة السجدة)
وقال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)﴾
(سورة الزمر)
وقال تعالى:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)﴾
(سورة الحشر)
وقال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)﴾
(سورة الجمعة)
أيُّها الأخوة القراء... ملخَّص هذا الاسم الجليل أنَّ الله معكم أينما كنتم، معكم بعلمه، ومعكم بتأييده، إن كنتم على طاعته، معكم بعلمه، ومعكم بنصره وحفظه وتأييِّده وتوفيقه ؛ إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسله، وعزَّرتموهم، وأقرضتم الله قرضاً حسناً.
من لوازم أنَّه معكم يعلم ما تفعلون، يعلم ظاهر العمل، وباطن العمل. ونوايا صاحب العمل ومؤدَّى العمل، وخلفيَّة العمل، عملك بكلِّ تفاصيله، وملابساته، وخلفيَّاته، وأهدافه، ومراميه، في علم الله عزَّ وجلَّ.
ثم هو يُنبئك عن عملك في الدنيا والآخرة، ينبئك عن ذاتة، يشهد لك أنَّه لا إله إلا هو، أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد.
وقد ورد بالأثر القدسي:
(( أن يا عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعي بخلقهن، أفيُعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين ؟ وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأُسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريّة ثم لا يَنالُك منها إلا ما قسمته لك ولا أُبالي وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أُريد، فإذا سلَّمتني فيما أُريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّمني فيما أُريد أتعبتُك فيما تُريد ثم لا يكونُ إلا ما أُريد ))
إذاً شهيد.. يعلم، وشهيد.. يُعْلِم، ينبئك أنه لا إله إلا الله، وينبئُك عن عملك بحبِّه لك، فإذا كان هناك شخصٌ مستقيمٌ يشهد الله له أنَّه مستقيم من خلال التوفيق، وإذا كان إنسان ماله حرام، يشهد الله له بأنَّ ماله حرام من خلال التدمير.. يدمِّر له ماله. فقد قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
المعيشة الضنك، شهادة الله للمنحرف ؛ بأنَّ هذا القرآن كلامه، ثمّ هو يشهد لك عن ذاته، وعن أفعاله، وعن كلامه، ويشهدك عملك في الدنيا والآخرة، إذاً هو سبحانه حاضر.. ويَعْلَم.. ويُعْلِم، هذا هو الشهيد.
أخيرًا، أدب المؤمن مع هذا الاسم.. إذا علمت أنَّ الله معك، وأنَّه شهيدٌ عليك، وأنَّه يسمع كلامك، ويرى حركتك ويعلم باطنك ؛ لا بدَّ من أن تتأدَّب معه. فالأدب مع الله من نتائج إدراك العبد أنه يوقن أنَّ الله على أفعاله شهيد