حكم أولاد المشركين هل هم فى الجنة أم النار ؟
من مات من أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم فهو في الجنة، لما رواه البخاري عن عدي بن ثابت: أنه سمع البراء رضي الله عنه قال: لما توفي إبراهيم عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له مرضعا في الجنة» قال الحافظ في الفتح: وإيراد البخاري له في هذا الباب، يشعر باختيار القول: إلى أنهم في الجنة.
وروى عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم».
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن من يكون سببا في دخول الجنة أولى، بأن يدخلها هو، لأنه أصل الرحمة وسببها.
وأما أولاد المشركين فهم مثل أولاد المسلمين، في دخولهم الجنة.
قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلان لا يعذب غير العاقل من باب أولى.
ولما رواه أحمد عن خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: «النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة» قال الحافظ: إسناده حسن.
سؤال القبر اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسأل بعد موته، قبر أم لم يقبر، فلو أكلته السباع أو احرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو غرق في البحر لسئل عن أعماله، وجوزي بالخير خيرا وبالشر شرا، وأن النعيم أو العذاب على النفس والبدن معا.
قال ابن القيم: مذهب سلف الأمة وائمتها أن الميت إذا مات، يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن، منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الارواح إلى الاجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد الابدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
وقال المروزي: قال أبو عبد الله يعني الإمام أحمد -: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل.
وقال حنبل: قلت لابي عبد الله في عذاب القبر.
فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، وكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به، فإنا إذا لم نقر بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه}.
قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق. يعذبون في القبور. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر، وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره ف {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} في القبر.
وقال أحمد بن القاسم: قلت: يا أبا عبد الله، تقر بمنكر ونكير، وما يروى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله...نعم نقر بذلك ونقوله.
قلت هذه اللفظة تقول: منكر ونكير هكذا.
أو تقول: ملكين؟ قال منكر ونكير.
قلت: يقولون: ليس في حديث منكر ونكير.
قال: هو هكذا يعني أنهما منكر ونكير.
قال الحافظ في الفتح: وذهب أحمد بن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود إلى الجسد.
وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه.
لان الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال.
كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط، أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولاغيره ولاضيق في قبره ولاسعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب.
وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة: بل له نظير في العادة وهو النائم.
فإنه يجد لذة، وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله.
والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم، إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله.
وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله: «إنه ليسمع خفق نعالهم» وقوله: «تختلف أضلاعه لضمة القبر» وقوله: «يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق» وقوله: «يضرب بين أذنيه» وقوله: «فيقعدانه» وكل ذلك من صفات الاجساد ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة:
1- روى مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلته ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه فإذا قبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: «من يعرف أصحاب هذه القبور؟» فقال رجل: أنا.
قال: «فمتى مات هؤلاء»؟ قال: ماتوا في الاشراط.
فقال: «أن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» ثم أقبل علينا بوجهه.
فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن».
قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال» قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.
2- وروى البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاد ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ - لمحمد - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقولان: أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا وأما الكافر، والمنافق، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقولان. لادريت ولاتليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة فيسمعها فيسمعها من يليه، غير الثقلين».
3- وروى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المسلم إذا سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قول الله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة} وفي لفظ: نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، فذلك قول الله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة}».
4- وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف والاحسان، عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يسارد، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والاحسان: ما قبلي مدخل فيقال له: اجلس فيجلس، قد مثلت له الشمس وقد أخذت للغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولان: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه؟ أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب إلى الجنة. فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها. فيزداد غبطة وسرورا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل نسمته في النسيم الطيب، وهي طير معلق في شجر الجنة، قال: فذلك قول الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة} وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن قال: ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: {فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}».
5- وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول: ما شاء الله فسألنا يوما، فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد، يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بصخرة أو فهر فيشدخ بها رأسه. فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه. قلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع، يوقد تحته نار فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا فإذا خمدت رجعوا. فقلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فرجع كما كان. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها. فيها شيوخ وشبان، ثم صعداني، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت؟ قالا: نعم، الذي رأيته يشق شدقه كذاب يحدث بالكذبة. فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة وأما الذي رأيته في النقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر فآكل الربا، وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم، وأما الصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار، فمالك خازن النار، والدار الأولى دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا قصر مثل السحابة، قالا: ذلك منزلك، قلت دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك».
قال ابن القيم: وهذا نص في عذاب البرزخ، فإن رؤيا الانبياء وحي مطابق لما في نفس الأمر.
6- وروى الطحاوي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلا قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره».
7- وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتا من قبر، فقال: «متى مات هذا؟» فقالوا: مات في الجاهلية فسر بذلك وقال: «لولا أن لاتدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر» رواه النسائي ومسلم.
8- وعن ابن عمر رضي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه» رواه البخاري ومسلم والنسائي.
مستقر الارواح عقد ابن القيم فصلا ذكر فيه أقوال العلماء في مستقر الارواح ثم ذكر القول الراجح فقال: قيل: الارواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم التفاوت.
فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملا الاعلى، وهي أرواح الانبياء
صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء.
ومنها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت.
وهي أرواح بعض الشهداء لاجميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: «الجنة» فلما ولى، قال: «إلا الدين، سارني به جبريل آنفا» ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة، كما في الحديث الاخر: «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة» ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره».
ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» رواه أحمد وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما، في الجنة حيث شاء.
ومنهم من يكون محبوسا في الأرض، لم تعل روحه إلى الملا الاعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والانس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، ولا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره، والتقرب إليه، والانس به، تكون بعد المفارقة مع الارواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد ويجعل روحه «يعني المؤمن» مع القسم الطيب يعني الارواح الطيبة المشاكلة لروحه فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم، تسبح فيه، وتلقم الحجارة، فليس للارواح - سعيدها وشقيها - مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض.
وأنت إذا تأملت السنن والاثار في هذا الباب، وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك.
ولا تظن أن بين الاثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا، فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا، وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض، ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والالم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والانطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال البدن في بطن أمه! وحالتها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار، فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها.
الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة.
والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
والدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة والنار فلا دار بعدهما.
والله ينقلها في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها.
ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الاخرى، فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها، فمن عرفها كما ينبغي، شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله، وأن الذي جاءوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل وبالله التوفيق.