الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - عبد الملك بن مروان


عبد الملك بن مروان

أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي، الخليفة الأموي الفقيه، والمؤسس الثاني للدولة الأموية، والمؤسس الحقيقي للنظام الإداري والسياسي للإدارات الإسلامية في عهد الدولة الأموية.
ولد في المدينة وتفقه في الدين واستلم الحكم بعد أبيه مروان بن الحكم سنة 65هـ/684م، واستقام على الملك واحداً وعشرين عاماً، وعجت بأخبار خلافته وأعماله كتب التاريخ العربي الإسلامي، ما كتب منها في العصور السالفة وما دوّن حديثاً. وعلى الرغم من اختلاف بعضها في تقويم تصرفاته فإنها كلها أفاضت بعلم عبد الملك وثقافته وفقهه وأدبه وشعره، حتى إنه كان يعد رابع ثلاثة فقهاء مشهورين في المدينة هم: سعيد ين المسيب وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وقال عنه الشعبي: «ماجالست أحداً إلاّ وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثاً ولا شعراً إلاّ زادني فيه». كما أن كتب التاريخ أجمعت على حزمه وصرامته في تطبيق ما يؤمن به ومعرفته لطبائع البشر، فقد روى عنه المسعودي، أن بعض جلسائه طلب الخلوة إليه يوماً، فأجابه إلى طلبه بشرط ثلاث خصال: لاتُطر نفسي عندك، أي لا تمدحها؛ فأنا أعلم بها منك، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع منك، ولا تكذبني فلا رأي لمكذب، فاستأذن الجليس منه وانصرف.
ومما لاشك فيه أن ثقافته الواسعة وتفهمه لأحكام الدين وأعماق قيمه قد ساعدته على توسيع ساحة رؤياه، وإيضاح معالم الطريق الذي عليه أن يسلكه في استكمال بناء الدولة العربية الإسلامية، كما أنه استطاع بثاقب فكره وبعد نظره أن يرسم لنفسه أبعاداً رئيسة ترتكز عليها الدولة العربية الإسلامية ولاتكون متماسكة إلا بها، أولها: بُعد سياسي حربي دعامته الجيش الذي كان عليه أن يتحرك بالكم العددي والاستعدادات الملائمة بحسب ما تمليه سياسة الدولة للحفاظ على كيان الأمة ووحدتها، فقد وصل عبد الملك بن مروان إلى الخلافة، وقد عادت العصبية القبلية تمزق وحدة الأمة العربية، والمطامع الشخصية التي استغلت الخلافات المذهبية والعواطف الشعبية، تُكتل المسلمين فئات وأحزاباً متنافرة، تطالب كلها بالحكم والخلافة لأنها ترى أنها أحق من الأمويين بها، فهناك شيعة علي بن أبي طالب في العراق (التوابون، المختار بن أبي عبيد الثقفي وما نجم عنها من الكيسانية) وهناك الموالون لعبد الله الزبير الذي ثار بالحجاز وبويع بالخلافة ومدَّ سلطانه إلى العراق والمشرق، وهناك الخوارج إضافة إلى تمردات فردية ومحلية.
إلى جانب هذا الانقسام الداخلي الخطير، كان الروم البيزنطيون في شمالي بلاد الشام وفي شمالي إفريقيا يتسللون بدسائسهم إلى صفوف سكان البلاد ويثيرون النفوس الطامحة منهم ويحرضونها على الثورة لتعود السيطرة لهم بعد أن تحررت من عبوديتهم وسلطانهم مستغلين الأوضاع الداخلية.
لم تربك هذه الأحداث الجسام عبد الملك، فالبعد السياسي الحربي واضح في ذهنه، فهو كان يدرك أن عبد الله بن الزبير سيحاول بمساعدة أخيه مصعب أن يستعيد نفوذه في العراق من المختار، ولذا فإنه ترك الأمر له ليصفيه، وفعلاً فإن مصعب تمكن من قتل المختار سنة 67هـ وإعادة سلطان أخيه على العراق، وبذلك قضى ثائر على ثائر.
بعد أن استقر الأمر لمصعب بن الزبير في العراق، توجه عبد الملك بنفسه وبقوته ليقضي على حركة ابن الزبير في العراق، ولكنه ما إن غادر دمشق عاصمة ملكه حتى ثار عليه فيها عمرو بن سعيد بن العاص وكان مرشحاً لولاية العهد، فأخذ البيعة لنفسه من الأهالي، فارتد عبد الملك على أعقابه واتبع سياسة الملاينة واللطف مع عمرو بن سعيد، حتى سلّمه هذا الأخير نفسه، ولم يمهله عبد الملك طويلاً فقتله.
وكما اتبع سلاح السياسة مع خصمه عمرو بن سعيد، فإنه اتبعه مع أهل العراق واستطاع بالحرب والسياسة معاً أن يقضي على مصعب بن الزبير سنة 72هـ على الرغم من البطولة والشجاعة اللتين أظهرهما.
وبعد أن استتب الأمر لعبد الملك في العراق وجه بصره إلى الحجاز، وأَمْرُ قائد جيشه الحجاج بن يوسف الثقفي في إخماد ثورة الحجاز معروف مشهور، وانتهى الأمر بمقتل عبد الله بن الزبير سنة 73هـ ورضوخ الحجاز لخلافة عبد الملك.
استفاد من هذا الصراع الداخلي القائم الخوارج من أزارقة وصُّفْرِيَّة فقاموا بشنّ حملات متفرقة في جنوب فارس والعراق، فسلط عبد الملك عليهم سيفه الحجاج الذي بعث لمحاربة الأزارقة المهلب بن أبي صفرة الذي استطاع أن يشتت شملهم، بينما قضى الحجاج على الخوارج الصُّفرية بدعم من مقاتلة الشام.
إذا كان عبد الملك بن مروان قد تمكن بمقدرته ومهارة قواده أن يقبض على زمام الموقف وأن يخمد تلك الحركات الداخلية الخطيرة لا على ملكه، وملك بني أمية كما يقول كثير من المؤرخين، وإنما على وحدة الأمة العربية وكيان الدولة الواحدة، فإنه استطاع كذلك أن يجعل الدولة تقف وحدة متراصة في وجه الحركات الخارجية التي استغلت انشغالاته العديدة لتمارس ضغوطها الحربية، فقد قام الجراجمة أو المردة الذين كانوا يقيمون قرب أنطاكية ويمتدون حتى الجنوب بتحرك مسلح مؤيد من امبراطور بيزنطة،ولما كان عبد الملك في محنة حقيقية، فإنه قبل المفاوضة مع امبراطور الروم لإيقاف تلك الغزوات، وجدد الهدنة معه على أن يدفع له مالاً، ويكف الجراجمة عن أعمالهم العدوانية، إلا أنه عندما صفا له الجو بعث إليهم بجيشه ففتك بهم.
وما أن انتهى عبد الملك من فتنة ابن الزبير وذيولها سنة 73هـ حتى بعث قائده حسان بن النعمان الغساني، مع جيش كبير إلى شمالي إفريقيا لأنه أدرك أن انتصار الروم فيها مع بعض أعوانهم من سكان البلاد، بعد مقتل القائد زهير بن قيس البلوي، يعدّ خطراً كبيراً على الدولة العربية فهزم حسان الروم ودخل قرطاجنة وهدمها وقضى على تمرد الكاهنة في جبال الأوراس، وبنى مدينة تونس، وأعاد سلطان العرب على ولاية إفريقيا.
إن عبد الملك في صراعاته التي كانت أداته فيها جيش العرب المتلاحم، وفي منحى الحزم، بل الشدة والقسوة أحياناً، في قمع تلك التمزقات في كيان الأمة الواحدة والدولة الواحدة، كان يدرك في الوقت نفسه أن البعد الحربي بكل أهدافه، وأن الجيش مهما بلغ من قوته وإيمانه وتجاوبه مع أهداف الأمة، لايكفيان لترسيخ قدم الدولة الواحدة، بل يجب أن يدعم ذلك البُعد بُبعد يشد أزره ويعمقه، وهو البعد الثقافي، وهذا البعد في خطوطه العريضة، هو إشعاع رسالة الإسلام الإنسانية، وهذا الإشعاع لن يتم عبر الفتوحات فقط، وإنما يجب أن ترافقها حركة تعريب شاملة تسود فيها اللغة العربية الدواوين والإدارة والحياة كلها، حتى تدرك الرسالة الإسلامية بأعماقها ومفهوماتها، وهكذا ابتدأ عبد الملك بعد أن توطدت له الأمور بحركته الشهيرة في التاريخ باسم التعريب، تعريب القراطيس والنقد والدواوين.
والقراطيس هي الأوراق الرسمية التي تكتب عليها الرسائل الرسمية ووثائق الدولة، وكانت القراطيس تصنع في مصر، ويقوم على صناعتها الأقباط وهم نصارى، ولقد رأى عبد الملك أن ما كان يكتب في أعلى القراطيس من مأثورات مسيحية بعد ترجمتها إلى العربية لايتفق ومفاهيم الدين الإسلامي، فكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز والي مصر استبدال عبارة «قل هو الله أحد» بما كان يكتب عليها، ولما كانت القراطيس تدخل بلاد الروم من أرض مصر، ويأتي العرب من قبل الروم الدنانير، فقد كتب ملك الروم إلى عبد الملك مهدداً، بأنهم إذا لم يتركوا ما على القراطيس من كتابة كرهها الروم البيزنطيون فإنهم سوف يذكرون النبي على الدنانير بما يكرهه المسلمون، ولاشك أن عبد الملك شعر بالحرج أمام ذلك التهديد، فاقتصاد الدولة في حاجة ماسة إلى النقد الذهبي البيزنطي الذي كان وحدة التعامل الرئيسة في أنحاء الدولة العربية الإسلامية، بل وفي معظم العالم المعروف آنذاك، والتهديد إذا نُفّذ فإن اقتصاد البلاد يهدد بأزمة عنيفة، لأن الدولة لا تملك بديلاً منها، ولم يرد عبد الملك على الرغم من إيمانه بصحة عمله أن يقطع الأمر وحده، فاستشار خالد بن يزيد، فأشار عليه خالد أن يُحرم دخول الدنانير الرومية إلى البلاد الإسلامية، ويسك عملة عربية ذهبية تحل محل الدينار البيزنطي، ولم يتردد عبد الملك فأقدم على خطوته الجريئة، وأوجد النقد العربي الفضي (الدرهم) والذهبي (الدينار) للدولة العربية الإسلامية، وهكذا كان عبد الملك أول من أوجد النقد القومي العربي للدولة الإسلامية، وبقي عمله لأنه قام على أساس علمي، إذ حدد عياراً ثابتاً لكل من النقدين بنسبة معينة بينهما وفق ما أقره الشرع، وكان هذا عملاً عظيماً، إذ قضى على المفاسد التي كانت موجودة عند جباية الجزية والخراج لأن التعامل بقي في العراق والقسم الشرقي من الدولة قائماً على أساس الدرهم، وفي الشام ومصر والمغرب على أساس الدينار العربي الذهبي، فأفادت الرعية من هذا العمل، كما أفادت منه الدولة، بل كان بمنزلة حجر الأساس للنهضة التجارية الإسلامية.
تلا تعريب النقد تعريب الدواوين، ونعني بها دواوين الخراج والجبايات، والتي بقيت على ما كانت عليه قبل الإسلام، فديوان الخراج في بلاد الشام يكتب بالرومية (اليونانية)، وفي العراق بالفارسية البهلوية، وفي مصر بالرومية والقبطية، وكتَّاب تلك الدواوين كانوا من أهل الذمة (العهد) من الفرس والروم، وقد أدرك عبد الملك أن تسلم الفرس والروم لدواوين الخراج، وهي دواوين المال وعصب حياة الدولة له أخطاره، فالكتّاب الروم والفرس كانوا يشعرون أنهم بعيدون مبدئياً عن مراقبة سلطات الدولة العليا، لأنهم يدونون بلغة لا تجيدها، فالمرتع أمامهم كان خصيباً للتلاعب والتزوير، كما أنهم كانوا يحسون أنه لاغنى للحاكمين الجدد عن خدماتهم، وأنهم مهما تحكموا واستبدوا وأهملوا عملهم وتقاعسوا فيه فإنهم سيبقون في مراكزهم، وإلى هذه الناحية تشير معظم روايات المؤرخين عند كلامهم عن الأسباب التي دفعت عبد الملك إلى تعريب الدواوين، فقد رأى عبد الملك من سرجون بن منصور صاحب ديوان خراج الشام، توانياً وتفريطاً وتقصيراً، فقال لسليمان بن سعد صاحب ديوان الرسائل: «أما ترى إدلال سرجون علينا، وأحسبه قد رأى ضرورتنا إليه وإلى صناعته أفما عندك حيلة؟ قال سعد: لو شئت لحولت الحساب إلى العربية، قال: فافعل، فحوَّله، والرواية التي ذكرت عن تعريب الحجاج لديوان العراق تشبه في إطارها العام، وبالتحدي الموجه إلى قدرات العرب فيها، ما ذُكِرَ عن تعريب ديوان الشام، فقد قال زادان فروخ صاحب ديوان الخراج في العراق لصالح بن عبد الرحمن عندما أخبره بأنه قد خَفَّ على قلب الحجاج، وأنه قد يقدمه عليه« لا تظن ذلك فهو أحوج إليّ مني إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري فقال صالح: والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحوَّلته فقال: «فحول منه شطراً حتى أرى ففعل».
تم تعريب ديوان خراج الشام وفق رواية البلاذري سنة 81هـ، بينما تم تعريب ديوان خراج العراق ما بين 82ـ83هـ، وتأخر تعريب ديوان خراج مصر إلى خلافة الوليد بن عبد الملك.
كان من أهم النتائج التي نجمت عن تعريب الدواوين ضبط أعمالها والإشراف عليها لمنع الغش والتزوير والتلاعب بالأموال. يذكر البلازدي أن مردانشاه ابن زادان فروخ بذل لصالح بن عبد الرحمن 100ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عنه، وما كان مردانشاه ليقدم على هذا العمل لولا شعوره بالخسارة المادية والمعنوية التي سوف يمنى بها هو وكتّابه نتيجة لتعريبه ولإشراف الولاة والمسؤولين على تدقيق الحسابات، وقد ترتب على تعريب الدواوين نتائج أخرى لها أهميتها. إذ كان سبباً في جعل اللغة العربية الرسمية السائدة في الإدارة وفي إيجاد طبقة من الكتاب تتقن العربية، كما دفعت العناصر من غير العرب إلى تعلم العربية وإتقانها، وتفهم القرآن والاعتناق العقلي للدين الإسلامي، وتبني الثقافة العربية ثم الإسهام فيها وإغنائها بتيارات فكرية جديدة، ومن ثم إخصاب العربية ذاتها بمعان ومصطلحات جديدة، وكانت هي بداية الاتجاه المنظم للإفادة من الثقافات الأخرى، وصهرها كلها في بوتقة العربية ذلك الصهر الذي خرجت منه بعد ذلك الحضارة العربية الإسلامية.
إن عبد الملك بعمله التعريبي الواسع قد حرر الدولة العربية من كل ضغط أجنبي أو تلاعب بمقدراتها، كما رسخ عروبة الدولة الإسلامية الواحدة، ومتن بناءها القومي من جميع النواحي الاقتصادية والثقافية والحربية والإسلامية، واستكمالاً لسياسته الهادفة إلى إعلاء كلمة الإسلام بنى عبد الملك قبة الصخرة  في القدس التي تُعدّ أبدع آثار الأمويين، كما أنها أقدم أثر إسلامي في تاريخ العمارة الإسلامية، وكان العامل لبناء القبة دينياً محضاً، وقد أظهرت النقوش التي تزين داخل قبة الصخرة بوضوح روح مناظرة المسيحية والرغبة في إظهار روح رسالة الإسلام.
توفي عبد الملك في دمشق تاركاً لابنه وخليفته من بعده دولة موطدة الأركان، مما ساعد القادة العرب على القيام بتلك الفتوحات الرائعة في بلاد ما وراء النهر والسند والمغرب الأقصى والأندلس.