الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - هشام بن عبد الملك


هشام بن عبد الملك

أبو الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان، الخليفة القرشي الأموي الدمشقي، تولى الخلافة سنة 105هـ بعهد معقود له من أخيه يزيد بن عبد الملك (101-105هـ) على أن تكون الخلافة من بعده للوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ولد بدمشق عام مقتل مصعب بن الزبير ، وأمه ابنة الأمير هشام بن إسماعيل المخزومي، كانت له دار عند باب الخوّاصين، تحول بعضها إلى المدرسة والتربة النورية، أتته الخلافة وهو بالزيتونة في دويرة له هناك، فجاءَه البريد بالعصا والخاتم وسُلم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق، ولكنه لم يلبث أن تركها ونزل الرصافة حيث أقام بها، وكان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدّون ويهربون من الطاعون فينزلون البرية، وقد ابتنى هشام بن عبد الملك في خلافته وفي أثناء إقامته بالرصافة قصر الحير الغربي على بعد 64كم إلى الغرب من تدمر، وقصر الحير الشرقي على بعد 100كم إلى الشرق من المدينة نفسها.
كان هشام عاقلاً حليماً، دقيق النظر، متيقظاً في سلطانه، سائساً لرعيته، اتصف بالتقوى وحسن الإسلام وبأنه من طراز السلف الصالح، قرّب إليه المحدثين أمثال الزهري وابن أبي الزناد، وعادى القائلين بالقدرية، واتصف بالتسامح الديني، فقد سمح لمسيحيي أنطاكية أن يعينوا شخصاً لشغل كرسي بطريركية أنطاكية بعد أن كانوا قد حرموا من هذا الحق مدة أربعين عاماً.
لم يكن أحد من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشد عليه من هشام، ولذلك ثقُل عليه خروج زيد بن علي كما يذكر الواقدي نقلاً عن ابن أبي الزناد، وكان قد كتب إلى واليه على العراق يوسف بن عمر أن يعجل بإشخاص زيد إلى الحجاز، وألا يسمح له بالإقامة فيها «لأن أهل الكوفة معروفون بحبهم لآل البيت فإن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله وجدهم ميلاً إليه غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم ولا مصونة عندهم أديانهم، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء أحب إليَّ من أمر فيه سفك دمائهم وانتشار كلمتهم، وقطع نسلهم». ومع أن يوسف بن عمر ألح على زيد بن علي بالخروج من الكوفة فإن أهل الكوفة استمروا في إقناعه وأكدوا له أن مئة ألف رجل من أهل الكوفة مستعدون لمساندته والقتال معه، وفعل هذا الكلام في نفس زيد فعله واغتر بالوعود تزجى له. مع أن بعض أتباعه كانوا يحاولون إقناعه بعدم الاعتماد على أهل الكوفة الذين خذلوا جدّه الحسين «بايعه ثمانون ألفاً وقاتل معه ثلاثمئة» وهذا ما حدث فعلاً فإنه عندما قرر زيد بن علي الخروج في اليوم المتَّفق عليه لم يوافه سوى 213 رجلاً ولما تساءَل أين الناس قيل إنهم بالمسجد الأعظم محصورون، واستطاع يوسف بن عمر أن يقضي على ثورة زيد بن علي من دون مشقة كبيرة وانتهت الثورة بمقتله سنة 122هـ.
أولى هشام بن عبد الملك الجهاز الإداري اهتماماً كبيراً، ولذلك تمتع هذا الجهاز في عهده بدرجة عالية من الدقة والانتظام وحسن سير العمل، وعن عبد الله بن علي العباسي قال: «جمعت بين دواوين بني مروان فلم أرَ ديواناً أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام». وعن غسان ابن عبد الحميد الكاتب قوله: «لم يكن أحد من بني مروان أشدّ نظراً في أمر أصحابه ودواوينه ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام»، وقد أمر هشام أن يخصص العطاء للمقاتلة فقط، وألا يعطى العطاء أحد من الأشراف أو رجال البيت الأموي إلا إذا كان في صفوف المقاتلة، وكان لهشام بن عبد الملك مولى يقال له يعقوب فكان يأخذ عطاء هشام مئتي دينار ودينار ويغزو.
هذا وقد بلغ جهاز الاستخبارات في عهد هشام درجة كبيرة من الإحكام كما يذكر ابن قتيبة، فقد وضع هشام العيون والمخبرين في الناس، وفضلاء العباد في سائر الأمصار والبلدان، يحصون أقوال الولاة والعمال ويحفظون أعمال الأخيار والأشرار، فلا خبر يكون ولا قصة تحدث في مشرق الأرض أو في مغربها إلا وهو يتحدث به في الشام وينظر فيه هشام. وإذا كان في رواية ابن قتيبة بعض المبالغة إلا أنه يعطي صورة تمكن الباحث من القول إنّ جهاز الاستخبارات كان من الأجهزة المهمة في الدولة، وكان تطرّق الخلل إلى هذا الجهاز في أواخر الدولة من الأسباب التي أدّت إلى سقوطها، كما اعترف بذلك أحد أفراد البيت الأموي، حيث قال: «وكان زوال ملكنا استتار الأخبار، عنا فزال ملكنا عنا بنا».
لم تقتصر عناية هشام على الشؤون الداخلية، بل وجه اهتمامه أيضاً إلى الحروب والفتوحات، فمنذ مطلع حكمه استأنفت الدولة عملياتها العسكرية ضد الروم بعد أن كانت قد توقفت منذ غزو العرب القسطنطينية سنة 98-99هـ والذي استنزف الشيء الكثير من قوة الدولة، وقد بنى هشام منذ مطلع عهده الحصون والمسالح في مواجهة الروم، وجعل من المصيصة قاعدة كبرى، وأحاطها بثلاثة حصون، حصن الربض، ثم حصن المثقّب الذي بناه حسان بن ماهويه الأنطاكي، وحصن قطر غاش على يد عبد العزيز ابن حيّان الأنطاكي، كما أمر هشام ببناء عدة حصون على الطريق الداخلي بين أنطاكية والمصيصة، وعادت حملات الصوائف والشواتي تستأنف نشاطها بانتظام، وقاد ابناه معاوية وسليمان غالبية هذه الحملات، وعندما هاجم الروم ملطية سنة 123هـ غزا هشام بنفسه ونزل ملطية وعسكر عليها حتى بنيت.
وفي عهده غزا الجرّاح بن عبد الله الحكمي - أمير أرمينية - الخزر، فلما هزمهم اجتمع الخزر مع الترك من ناحية اللان، فواجههم الجرّاح فيمن معه من أهل الشام ودارت المعركة على الحكم، واستشهد بمن معه بمرج أردبيل سنة 111هـ، بعد قتال شديد، نظراً لتكاثر الخزر والترك عليهم، فطمع الخزر بالعرب وأوغلوا في البلاد، فوجه هشام بن عبد الملك سعيد بن عمرو الحرشي بالعديد من أشراف أهل الشام فاستولى على عدد من الحصون، وهزم الخزر هزيمة ساحقة عند نهر البيلقان، ثم استعمل هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك على أرمينية وأذربيجان، فاستطاع بعد جهد بالغ أن يفتح مدينة باب الأبواب، وكان في قلعتها ألف أهل بيت من الخزر، فأسكن مسلمة بن عبد الملك المدينة أربعة وعشرين ألفاً من أهل الشام على العطاء، وبنى هرياً (الهري: بيت كبير يجمع فيه الحبوب [لاتينية]) للطعام، وخزانة للسلاح ورمَّ المدينة، وكان مروان بن محمد مع مسلمة بن عبد الملك وواقع معه الخزر، فأبلى وقاتل قتالاً شديداً، فولاه هشام ذلك الثغر، ولما رأى عظيم الخزر كثرة ما وطئ به مروان بلاده من الرجال وما هم عليه في عدتهم وقوتهم قَبِلَ الدخول في الإسلام، عندما خيَّره مروان بين الحرب والإسلام، فأقره مروان في مملكته، ويبدو أن مدينة باب الأبواب أصبحت المركز الذي تنطلق منه جيوش الفتح، ويلاحظ أن المعاهدات التي عقدها مروان بن محمد مع ملوك تلك المناطق كانت تنص كلها على تقديم أعداد من الغلمان والجواري، وعلى كميات ضخمة من الأرزاق تصب كلها في أهراء الباب.
توفى هشام بن عبد الملك في الرصافة ودفن فيها، فانطوت بموته مرحلة حافلة من مراحل التاريخ الأموي، مرحلة ظلّت فيه الخلافة مهابة والدولة سليمة مصانة، ولكن ما إن بويع بعده للوليد بن يزيد حتى دخلت دولة بني أمية في مرحلة الاحتضار، بسبب ما توالى عليها من ضربات نجمت عن انقسام البيت الحاكم وتصدعه وتفاقم الأخطار الخارجية، فتهاوى النظام واقتربت النهاية المحتمة.