صلاة الجمعة
.1- فضل يوم الجمعة:
ورد أن يوم الجمعة خير أيام الاسبوع: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وعن أبي لبانة البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الايام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الاضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله عز وجل فيه آدم عليه السلام، وأهبط الله تعالى فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تعالى إياه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض، ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة». رواه أحمد وابن ماجه، قال العراقي إسناده حسن.
.2- الدعاء فيه:
ينبغي الاجتهاد في الدعاء عند آخر ساعة من يوم الجمعة.
فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله تعالى في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا قضى له حاجته.
قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أو بعض ساعة».
فقلت: صدقت، أو بعض ساعة.
قلت أي ساعة هي؟ قال: «آخر ساعة من ساعات النهار» قلت: إنها ليست ساعة صلاة قال: «بلى: إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة» رواه ابن ماجه.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل فيها خبرا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر» رواه أحمد. قال العراقي: صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئا إلا آتاه إياه: والتمسوها آخر ساعة بعد العصر» رواه النسائي وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم، وحسن الحافظ إسناده في الفتح.
وعن أبي سلمة ابن عبد الرحمن رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. رواه سعيد في سننه وصححه الحافظ في الفتح.
وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث في الساعة التي يرجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد صلاة العصر ويرجى بعد زوال الشمس.
وأما حديث مسلم وأبي داود عن أبي موسى رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ساعة الجمعة: «هي ما بين أن يجلس الإمام» يعني على المنبر «إلى أن تقضي الصلاة» فقد أعل بالاضطراب والانقطاع.
.3- استحباب كثرة الصلاة والسلام:
على الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويومها:
فعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ فقال: «إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الانبياء» رواه الخمسة إلا الترمذي.
قال ابن القيم: يستحب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلته لقوله.
«أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة» ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الانام ويوم الجمعة سيد الايام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والاخرة فإنها نالته على يده فجمع الله لامته بين خيري الدنيا والاخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة. فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة.
وهو عيد لهم في الدنيا، ويوم يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده فمن شكره وحمده، وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن يكثروا من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.
.4- استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلته:
فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» رواه النسائي والبيهقي والحاكم.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين» رواه ابن مردويه بسند لا بأس به.
كراهة رفع الصوت بها في المساجد: أصدر الشيخ محمد عبده فتوى جاء فيها: وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة جاء في عبارة الاشباه عند تعداد المكروهات ما نصه: ويكره إفراده بالصوم وإفراد ليلته بالقيام، وقراءة الكهف فيه خصوصا وهي لا تقرأ إلا بالتلحين، وأهل المسجد يلغون ويتحدثون ولا ينصتون، ثم إن القارئ كثيرا ما يشوش على المصلين فقراءتها على هذا الوجه محظورة.
.5- الغسل والتجمل والسواك والتطيب للمجتمعات ولا سيما الجمعة:
يستحب لكل من أراد حضور صلاة الجمعة أو مجمع من مجامع الناس سواء كان رجلا أو امرأة، أو كان كبيرا أو صغيرا، مقيما أو مسافرا، أن يكون على أحسن حال من النظافة والزينة: فيغتسل ويلبس أحسن الثياب ويتطيب بالطيب ويتنظف بالسواك وقد جاء في ذلك:
1- عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه» رواه أحمد والشيخان.
2- وعن ابن سلام رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود وابن ماجه.
3- وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للامام إذا تكلم إلا غفر له من الجمعة إلى الجمعة الاخرى» رواه أحمد والبخاري.
وكان أبو هريرة يقول: «وثلاثة أيام زيادة، إن الله جعل الحسنة بعشرة أمثالها».
وغفران الذنوب خاص بالصغار. لما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة «ما لم يغش الكبائر».
4- وعند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة».
5- وعند الطبراني في الاوسط والكبير بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: «يا معشر المسلمين هذا يوم جعله الله لكم عيدا فاغتسلوا وعليكم بالسواك».
.6- التبكير إلى الجمعة:
يندب التبكير إلى صلاة الجمعة لغير الإمام.
قال علقمة: خرجت مع عبد الله ابن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة من الله ببعيد، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر ترواحهم إلى الجمعات الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد» رواه ابن ماجه والمنذري.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجه، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستعمون الذكر» رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
وذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أن هذه الساعات هي ساعات النهار فندبوا إلى الرواح من أول النهار وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده، وقال قوم هي أجزاء ساعة قبل الزوال.
وقال ابن رشد: وهو الاظهر لوجوب السعي بعد الزوال.
.7- تخطي الرقاب:
حكى الترمذي عن أهل العلم أنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة وشددوا في ذلك، فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس فقد آذيت وآنيت» رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وغيره.
ويستثنى من ذلك الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة بشرط أن يتجنب أذى الناس.
فعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: «ذكرت شيئا من تبر كان عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته» رواه البخاري والنسائي.
.8- مشروعية التنفل قبلها:
يسن التنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الإمام فيكف عنه بعد خروجه إلا تحية المسجد فإنها تصلى أثناء الخطبة مع تخفيفها إلا إذا دخل في أواخر الخطبة بحيث ضاق عنها الوقت فإنها لا تصلى.
1- فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. رواه أبو داود.
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى وفضل ثلاثة أيام» رواه مسلم.
3- وعن جابر رضي الله عنه قال: دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «صليت؟» قال لا قال: «فصل ركعتين» رواه الجماعة.
وفي رواية «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وفي رواية: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين» متفق عليه.
.9- تحول من غلبه النعاس عن مكانه:
يندب لمن بالمسجد أن يتحول عن مكانه إلى مكان آخر إذا غلبه النعاس: لأن الحركة قد تذهب بالنعاس وتكون باعثا على اليقظة، ويستوى في ذلك يوم الجمعة وغيره.
فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
.10- وجوب صلاة الجمعة:
أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة فرض عين، وأنها ركعتان لقول لله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
1- ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الاخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد».
2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواه أحمد ومسلم.
3- وعن أبي هريرة وابن عمر أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» رواه مسلم ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس.
4- وعن أبي الجعد الضمري، وله صحبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاثا جمع تهاونا طبع الله على قلبه» رواه الخمسة ولأحمد وابن ماجه من حديث جابر نحوه، وصححه ابن السكن.
.11- من تجب عليه ومن لا تجب عليه:
تجب صلاة الجمعة على المسلم الحر العاقل البالغ المقيم القادر على السعي إليها الخالي من الاعذار المبيحة للتخلف عنها وأما من لا تجب عليهم فهم:
1، 2- المرأة والصبي، وهذا متفق عليه.
3- المريض الذي يشق عليه الذهاب الى الجمعة أو يخاف زيادة المرض أو بطأه وتأخيره.
ويلحق به من يقوم بتمريضه إذا كان لا يمكن الاستغناء عنه، فعن طارق بن شهاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» قال النووي: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وقال الحافظ: صححه غير واحد.
4- المسافر وإذا كان نازلا وقت إقامتها فإن أكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة فصلى الظهر والعصر جمع تقديم ولم يصل جمعته، وكذلك فعل الخلفاء وغيرهم.
5، 6- المدين المعسر الذي يخاف الحبس، والمختفي من الحاكم الظالم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر» قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: «خوف أو مرض» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
7- كل معذور مرخص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك.
فعن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة.
قل صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا فقال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض.
وعن أبي مليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة وأصابهم مطر لم تبتل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم رواه أبو داود وابن ماجه.
وكل هؤلاء لا جمعة عليهم وإنما يجب عليهم أن يصلوا الظهر، ومن صلى منهم الجمعة صحت منه وسقطت عنه فريضة الظهر وكانت النساء تحضر المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصلى معه الجمعة.
.12- وقتها:
ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين إلى أن وقت الجمعة هو وقت الظهر.
لما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والبيهقي عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا مالت الشمس.
وعند أحمد ومسلم أن سلمة بن الاكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفئ.
وقال البخاري: وقت الجمعة إذا زالت الشمس.
وكذلك يروى عن عمر وعن علي والنعمان بن بشير وعمر بن حريث رضي الله عنهم.
وقال الشافعي صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان والائمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال.
وذهبت الحنابلة وإسحاق إلى أن وقت الجمعة من أول وقت صلاة العيد إلى آخر وقت الظهر، مستدلين بما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس.
وفي هذا تصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس.
واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن سيدان السلمي رضي الله عنه قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زوال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدار قطني والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله واحتج به، وقال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال فلم ينكر عليهم. فكان الاجماع.
وأجاب الجمهور عن حديث جابر بأنه محمول على المبالغة في تعجيل الصلاة بعد الزوال من غير إبراد، أي انتظار لسكون شدة الحر، وأن الصلاة وإراحة الجمال كانتا تقعان عقب الزوال.
كما أجابوا عن أثر عبد الله بن سيدان بأنه ضعيف، قال الحافظ ابن حجر: تابعي كبير غير معروف العدالة.
وقال ابن عدي: يشبه المجهول.
وقال البخاري: لا يتابع على حديثه وقد عارضه ما هو أقوى منه.
فروى ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، وإسناده قوي.
لا خلاف بين العلماء في أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة، لحديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة».
واختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر مذهبا ذكرها الحافظ في الفتح.
والرأي الراجح أنها تصح باثنين فأكثر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة»، قال الشوكاني: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالاجماع، والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها.
وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص.
اه وممن ذهب إلى هذا الطبري وداود والنخعي وابن حزم.
مكان الجمعة: الجمعة يصح أداؤها في المصر والقرية والمسجد وأبنية البلد والفضاء التابع لها، كما يصح أداؤها في أكثر من موضع.
فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل البحرين: «أن جمعوا حيثما كنتم» رواه ابن أبي شيبة، وقال أحمد: إسناده جيد.
وهذا يشمل المدن والقرى.
وقال ابن عباس: إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لجمعة جمعت بجوائى: قرية من قرى البحرين رواه البخاري وأبو داود.
وعن الليث بن سعد أن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة.
وعن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم رواه عبد الرزاق بسند صحيح.
مناقشة الشروط التي اشترطها الفقهاء تقدم الكلام على أن شروط وجوب الجمعة: الذكورة والحرية والصحة والإقامة وعدم العذر الموجب للتخلف عنها، كما تقدم أن الجماعة شرط لصحتها.
هذا هو القدر الذي جاءت به السنة والذي كلفنا الله به.
وأما ما وراء ذلك من الشروط التي اشترطها بعض الفقهاء فليس له أصل يرجع إليه ولا مستند يعول عليه.
ونكتفي هنا بنقل ما قاله الروضة الندية قال: هي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها.
وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل من أنه يشترط في وجوبها الإمام الاعظم والمصر الجامع والعدد المخصوص، فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط.
ولولا حديث طارق بن شهاب المقيد للوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة ومن عدم إقامتها في زمنه صلى الله عليه وسلم في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات.
وأما ما يروى من أربعة إلى الولاة فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله وإنما هو من كلام الحسن البصري.
ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة - التي افترضها الله عليهم في الاسبوع وجعلها شعارا من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجمعة - من الاقوال الساقطة والمذاهب الزائفة والاجتهادات الداحضة قضى من ذلك العجب فقائل يقول الخطبة كركعتين وإن من فاتته لم تصح جمعته وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها عضد بعض: أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته، ولا بلغه غير هذا الحديث من الادلة.
وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام، وقائل يقول بأربعة، وقائل يقول بسبعة، وقائل يقول بتسعة، وقائل يقول باثني عشر، وقائل يقول بعشرين، وقائل يقول بثلاثين، وقائل يقول لا تنعقد إلا بأربعين، وقائل يقول بخمسين، وقائل يقول لا تنعقد إلا بسبعين وقائل يقول فيما بين ذلك، وقائل يقول بجمع كثير من غير تقييد وقائل يقول إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع.
وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من الالاف.
وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمام، وآخر قال أن يكون فيه كذا وكذا وآخر قال إنها لا تجب إلا مع الإمام الاعظم فإن لم يوجد أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه لم تجب الجمعة ولم تشرع، ونحو هذه الاقوال التي ليس عليها أثارة من علم ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها.
فيا لله للعجب مما فعل الرأي بأهله، وما يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل، يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الانصاف وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال، ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه مردود في وجهه.
والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
فهذه الايات ونحوها تدل أبلغ دلالة وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف هو حكم الله ورسوله.
وحكم الله هو كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله تعالى هو سنته ليس غير ذلك، ولم يجعل الله تعالى لاحد من العباد وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ وجمع منه ما لا يجمع غيره أن يقول في هذه الشريعة بشئ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة.
والمجتهد، وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل، فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان.
وإني: كما علم الله، لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين وتصديره في كتب الهداية وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به وهو على شفا جرف هار، ولم يختص بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الاقطار ولا بعصر من العصور: بل تبع فيه الاخر الأول كأنه أخذه من أم الكتاب وهو حديث خرافة.
وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الاشارة إليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل.
.13- خطبة الجمعة:
حكمها: ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب خطبة الجمعة واستدلوا على الوجوب بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الصحيحة ثبوتا مستمرا أنه كان يخطب في كل جمعة، واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر بالعي إلى الذكر فيكون واجبا لأنه لا يجب السعي لغير الواجب وفسروا الذكر بالخطبة لاشتمالها عليه.
وناقش الشوكاني هذه الادلة فأجاب عن الدليل الأول بأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب، وعن الدليل الثاني بأنه ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها والخطبة ليست بصلاة، وعن الثالث بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة، غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب ثم قال: فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط.
14- استحباب تسليم الإمام إذا رقي المنبر:
والتأذين إذا جلس عليه واستقبال المأمومين له:
فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. رواه ابن ماجه وفي إسناده ابن لهيعة وهو للاثرم في سننه عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس، ثم قال: «السلام عليكم».
قال الشعبي: كان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك.
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد. رواه البخاري والنسائي وأبو داود.
وفي رواية لهم: فلما كانت خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالاذان الثالث وأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك.
ولأحمد والنسائي: كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ويقيم إذا نزل.
وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم، رواه بان ماجه.
والحديث وإن كان فيه مقال إلا أن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب.
استحباب اشتمال الخطبة على حمد الله تعالى والثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والموعظة والقراءة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» رواه أبو داود وأحمد بمعناه.
وفي رواية «الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد الجذماء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: «تشهد» بدل «شهادة».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا بين يدي الساعة. من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا».
عن ابن شهاب رضي الله عنه أنه سئل عن تشهد النبي صلى الل عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال: ومن يعصهما فقد غوى. رواهما أبو داود.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب دائما ويجلس بين الخطبتين.
ويقرأ آيات ويذكر الناس. رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
وعنه أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات. رواه أبو داود.
وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما قالت: ما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود، وعن يعلى بن أمية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {ونادوا يا مالك} متفق عليه.
وعن ابن ماجه عن أبي أن الرسول قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم يذكر بأيام الله.
وفي الروضة الندية: ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لاجله شرعت.
وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسوله أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاما ويقول مقالا شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وما أحسن هذا وأولاه، ولكن ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعد، ولو قال: إن من قام في محفل من المحافل خطيبا ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولا، بل كان طبع سليم يمجه ويرده.
إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن.
مشروعية القيام للخطبتين والجلوس بينهما جلسة خفيفة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم كما يفعلون اليوم. رواه الجماعة.
وعن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال انه يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وروى ابن أبي شيبة عن طاوس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية.
وروى أيضا عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه.
وبعض الائمة أخذ وجوب القيام أثناء الخطبة ووجوب الجلوس بين الخطبتين استنادا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب.
استحباب رفع الصوت بالخطبة وتقصيرها والاهتمام بها:
فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة» رواه أحمد ومسلم.
«وإنما كان قصر الخطبة وطول الصلاة دليلا على فقه الرجل لأن الفقيه يعرف جوامع الكلم فيكتفي بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى» وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة، رواه النسائي بإسناد صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم» رواه مسلم وابن ماجه.
قال النووي: يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير، ولا تكون ألفاظا مبتذلة ملفقة فإنها لا تقع في النفوس موقعا كاملا، ولا تكون وحشية لأنه لا يحصل مقصودها، بل يختار ألفاظا جزلة مفهمة.
وقال ابن القيم: وكذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير الاصول الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار وما أعد الله لاوليائه وأهل طاعته وما أعد لاعدائه وأهل معصيته فيملا القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورا مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانا بالله ولا توحيدا له ولا معرفة خاصة ولا تذكيرا بأيامه ولا بعثا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا وأي توحيد وعلم نافع يحصل به؟! ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الايمان الكلية والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه والأمر بذكره، وشكره الذي يحببهم إليه فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه فينصرف السامعون قد أحبوه وأحبهم. ثم طال العهد وخفي نور النبوة وصارت الشرائع والاوامر رسوما تقوم من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها وزينوها بما، زينوها به فجعلوا الرسوم والاوضاع سننا لا ينبغي الاخلال بها وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الاخلال بها فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع، فنقص، بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها.
.15- قطع الإمام الخطبة للأمر يحدث:
وعن أبي بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» رواه الخمسة.
وعن أبي رفاعة العدوي رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله: رجل غريب يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي من خشب قوائمه حديد فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله تعالى، ثم أتى الخطبة فأتم آخرها رواه مسلم والنسائي.
قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يقطع خطبته للحاجة تعرض والسؤال لاحد من أصحابه فيجيبه، وربما نزل للحاجة ثم يعود فيتمها كما نزل لاخذ الحسن والحسين، وأخذهما ثم رقي بهما المنبر فأتم خطبته، وكان يدعو الرجل في خطبته تعال اجلس يا فلان، صل يا فلان، وكان يامرهم بمقتضى الحال في خطبته.
.16- حرمة الكلام أثناء الخطبة:
ذهب الجمهور إلى وجوب الانصات وحرمة الكلام أثناء الخطبة ولو كان أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر سواء كان يسمع الخطبة أم لا، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت لا جمعة له» رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار والطبراني.
قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده لا بأس به.
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحضر لجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل الله دعا إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة الت تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله عز وجل يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}» رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
وعن أبي الدرداء قال: جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له: يا أبي متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني، ثم سألته فأبى أن يكلمني، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي أبي: مالك من جمعتك إلا ما لغوت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جئته فأخبرته فقال: «صدق أبي، إذا سمعت إمامك يتكلم فانصت حتى يفرغ» رواه أحمد والطبراني.
وروي عن الشافعي وأحمد انهما فرقا بين من يمكنه السماع ومن لا يمكنه فاعتبرا تحريم الكلام في الأول دون الثاني وإن كان الانصات مستحبا.
وحكى الترمذي عن أحمد وإسحق الترخيص في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب.
وقال الشافعي: لو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه، لأن السلام سنة ورده فرض..أما الكلام في غير وقت الخطبة فإنه جائز.
فعن ثعلبة بن أبي مالك قال: كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا، رواه الشافعي في مسنده.
وروى أحمد بإسناد صحيح أن عثمان ابن عفان كان وهو على المنبر والمؤذن يقيم يستخبر الناس عن أخبارهم وأسعارهم.
ادراك ركعة من الجمعة أو دونها: يرى أكثر أهل العلم أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها وعليه أن يضيف إليها أخرى، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته» رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني.
قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها» رواه الجماعة.
وأما من أدرك أقل من ركعة فإنه لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا في قول أكثر العلماء.
قال ابن مسعود: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا رواه الطبراني بسند حسن.
وقال ابن عمر: إذا أدركت من الجمعة ركعة فأضف إليها أخرى، وإن أدركتهم جلوسا فصل أربعا رواه البيهقي وهذا مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: من أدرك التشهد مع الإمام فقد أدرك الجمعة فيصلي ركعتين بعد سلام الإمام وتمت جمعته.
الصلاة في الزحام: روى أحمد والبيهقي عن سيار قال: سمعت عمر وهو يخطب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هذا المسجد ونحن معه، المهاجرون والانصار، فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه.
ورأى قوما يصلون في الطريق فقال: صلوا في المسجد.
التطوع قبل الجمعة وبعدها: يسن صلاة أربع ركعات أو صلاة ركعتين بعد صلاة الجمعة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته رواه الجماعة.
قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل منزله فصلى ركعتين وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعا.
قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في المسجد صلى أربعا وإن صلى في بيته صلى ركعتين.
قلت: وعلى هذا تدل الأحاديث.
وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه إذا صلى في المسجد صلى أربعا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين.
وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. انتهى.
وإذا صلى أربع ركعات قبل يصليها موصولة وقيل يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين، والافضل صلاتها بالبيت.
وإن صلاها بالمسجد تحول عن مكانه الذي صلى فيه الفرض.
أما صلاة السنة قبل الجمعة فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم، ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله صلاة مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله: «من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له» وهذا هو المأثور عن الصحابة..كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر. فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة ومنهم من يصلي ثمان ركعات ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا كان جماهير الائمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، وهو لم يسن في ذلك شيئا، لا بقوله ولا فعله.
.17- اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد:
إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد سقطت الجمعة عمن صلى العيد، فعن زيد بن أرقم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم رخص في الجمعة فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة والحاكم.
وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون» رواه أبو داود.
ويستحب للامام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنا مجمعون».
وتجب صلاة الظهر على من تخلف عن الجمعة لحضوره العيد عند الحنابلة.
والظاهر عدم الوجوب، لما رواه أبو داود عن ابن الزبير أنه قال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر.