الأحد، 22 يناير 2012

شخصيات مصرية : مصطفى صادق الرافعى

مصطفى صادق الرافعى



ولد مصطفى صادق  الرافعي على ضفاف النيل في قرية بهتيم من قرى مدينة القليوبية بمصر في يناير عام 1880م. لأبوين سوريَّين؛ حيث يتصل نسب أسرة والده بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين. وقد وفد من آل الرافعي إلى مصر طائفة كبيرة اشتغلوا في القضاء على مذهب الإمام الأكبر أبي حنيفة النعمان حتى آل الأمر أن اجتمع منهم في وقت واحدٍ أربعون قاضياً في مختلف المحاكم المصرية؛ وأوشكت وظائف القضاء أن تكون حِكراً عليهم، وقد تنبه اللورد كرومر لذلك وأثبتها في بعض تقارير إلى وزارة الخارجية البريطانية.

أما والد الرافعي الشيخ عبد الرزاق سعيد الرافعي فكان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم المصرية، وقد استقر به المقام رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية، وهناك كانت إقامته حتى وفاته، وفيها درج مصطفى  
وإخوته لا يعرفون غيرها، ولا يبغون عنها حولاً.

أما والدته فهي من أسرة الطوخي وتُدعى " أسماء " وأصلها من حلب، سكن أبوها الشيخ الطوخي في مصر قبل أن يتصل نسبهم بآل الرافعي. وهي أسرة اشتهر أفرادها بالاشتغال بالتجارة وضروبها.

ثقافته وأدبه

لهذه الأسرة المورقة الفروع ينتمي 
مصطفى صادق وفي فنائها درج، وعلى الثقافة السائدة لأسرة أهل العلم نشأ؛ فاستمع من أبيه أول ما استمع إلى تعاليم الدين، وجمع القرآن حفظاً وهو دون العاشرة، فلم يدخل المدرسة إلا بعدما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ 17 عاماً أصابه مرض التيفوئيد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثراً ووقراً في أذنيه لم يزل يعاني منه حتى فقد حاسة السمع وهو بعد لم يجاوز الثلاثين.

وكانت بوادر هذه العلة هي التي صرفته عن إتمام تعليمه بعد الابتدائية. فانقطع إلى مدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه؛ فكان هو المعلم والتلميذ، فأكبَّ على مكتبة والده الحافلة التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فاستوعبها وراح يطلب المزيد، وكانت علته سببًا باعد بينه وبين مخالطة الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه وأهلها صحبته وخلانه وسمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم 8 ساعات لا يكل ولا يمل كأنه في التعليم شادٍ لا يرى أنه وصل إلى غاية.

نتاجه الأدبي والفكري

استطاع الرافعي خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمسٍ وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي.

(1) دواوينه الشعرية:

كان الرافعي شاعراً مطبوعاً بدأ قرض الشعر وهو في العشرين، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903 وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته. وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه. وبعد فترة أصدر ديوان النظرات، ولقي الرافعي حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها، حتى كتب إليه الإمام محمد عبده قائلاً: " أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل ".

(2) كتبه النثرية:

قلّ اهتمام الرافعي بالشعر عما كان في مبتدئه؛ وذلك لأن القوالب الشعرية تضيق عن شعوره الذي يعبر عن خلجات نفسه وخطرات قلبه ووحي وجدانه ووثبات فكره، فنزع إلى النثر محاولاً إعادة الجملة القرآنية إلى مكانها مما يكتب الكتاب والنشء والأدباء، أيقن أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء جيله، وأن له غاية هو عليها أقدر، فجعل هدفه الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارساً يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وينفخ في هذه اللغة روحاً من روحه، يردّها إلى مكانها ويرد عنها فلا يجترئ عليها مجترئ، ولا ينال منها نائل، ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف دخيلته. فكتب مجموعة من الكتب تعبر عن هذه الأغراض عُدت من عيون الأدب في مطلع هذا القرن. وأهمها:

1. تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه –كما يقول- على تبيان غلطات المجددين الذي يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع طه حسين الذي احتل رده على كتاب " في الشعر الجاهلي " معظم صفحات الكتاب.

2. وحي القلم: وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة والقصص والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها.

3. تاريخ الأدب العربي: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، الأول: في أبواب الأدب والرواية والرواة والشواهد الشعرية، والثاني: في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأما الثالث: فقد انتقل الرافعي إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه محمد سعيد العريان إخراجه؛ غير أنه ناقص عن المنهج الذي خطه الرافعي له في مقدمة الجزء الأول.

4. حديث القمر: هو ثاني كتبه النثرية وقد أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912؛ عرف فيها شاعرة من شاعرات لبنان ( مي زيادة ) ، وكان بين قلبيهما حديث طويل، فلما عاد من رحلته أراد أن يقول فكان " حديث القمر ".

5. كتاب المساكين: وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال. وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ علي الذي يصفه الرافعي بأنه: " الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه "، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً كبيراً من أهل الأدب حتى قال عنه أحمد زكي باشاً: " لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته ".

6. رسائل الأحزان: من روائع الرافعي الثلاثة؛ التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها " هي رسائل الأحزان لا لأنها من الحزن جاءت؛ ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلماً يترجم عن قلب كان حرباً؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان كالحياة ماضياً إلى قبر ".

7ـ. السحاب الأحمر: وقد جاء بعد رسائل الأحزان، وهو يتمحور حول فلسفة البغض، وطيش القلب، ولؤم المرأة.

8. أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالةً من حالاته ويثبت تاريخاً من تاريخه، كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام.

9. على السَّفُّود: وهو كتاب لم يكتب عليه اسم الرافعي وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي؛ وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي.

الرافعي ومعاركه الأدبية

كان الرافعي ناقداً أدبياً عنيفاً حديد اللسان والطبع لا يعرف المداراة، ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة كما يقول: " من جهة الحرص على الدين إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة بأحدهما إلا بقيامهما معاً ". وكان يهاجم خصومه على طريقة عنترة، يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع، فكانت له خصومات عديدة مع شخصيات عنيدة وأسماء نجوم في الأدب والفكر والثقافة في مطلع القرن، فكانت بينه وبين المنفلوطي خصومة ابتدأها هذا الأخير بسبب رأي الرافعي في شعراء العصر. وكانت له صولات مع الجامعة المصرية حول طريقة تدريس الأدب العربي، وجولات أخرى مع عبد الله عفيفي وزكي مبارك. على أن أكثر معاركه شهرةً وحدة هو ما كان بينه وبين طه حسين، وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب.

خصومته مع طه حسين:

كانت هذه الخصومة بسبب كتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " الذي ضمّنه رأيه في أن جُلّ الشعر الجاهلي منحول، وهي مقولة خطيرة تنبه لها الرافعي؛ فحمل عليه حملة شعواء في الصحافة المصرية واستعدى عليه الحكومة والقانون وعلماء الدين، وطلب منهم أن يأخذوا على يده وأن يمنعوه من أن تشيع بدعته بين طلاب الجامعة، وترادفت مقالاته عاصفة مهتاجة تفور بالغيظ والحميّة الدينية والعصبيّة للإسلام والعرب، كأن فيها معنى من معاني الدم، حتى كادت هذه الحملة تذهب بـ " طه " وشيعته؛ إذ وقف معقود اللسان والقلم أمام قوة قلم الرافعي وحجته البالغة، وقد أسرّ " طه " هذا الموقف للرافعي، فما سنحت له سانحة ينال بها من الرافعي إلا استغلها كي يرد له الصاع صاعين. غير أن الرافعي كان يقارعه حجة بحجة ونقداً بنقد حتى توفي رحمه الله.

خصومته مع العقاد:

وكان السبب فيها كتاب الرافعي " إعجاز القرآن والبلاغة القرآنية " إذ كان العقاد يرى رأياً مخالفاً لما يرى الرافعي، وقد نشبت بينهما لذلك خصومة شديدة تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه، ومحورها الذي كانت تدور عليه إلى ميادين أخرى؛ جعلت كلا الأديبين الكبيرين ينسى مكانه، ويغفل أدبه ليلغو في عرض صاحبه، ويأكل لحمه من غير أن يرى ذلك مَعابة عليه، وكان البادئ الرافعي في مقالاته " على السفود " التي جمعها له في كتاب صديقه إسماعيل مظهر، وتوقفت المعركة بينهما فترة وجيزة ما لبثت أن اشتعل أوارها مرة أخرى عندما نشر العقاد ديوانه " وحي الأربعين " فكتب الرافعي نقداً لديوانه، تلقفه العقاد بالسخرية والتهكم والشتم والسباب، ولم تزل بينهما الخصومات الأدبية حتى توفي الرافعي رحمه الله.

وفاته:

توفي الرافعي في مايو سنة 1937 عن عمر يناهز 57 عاماً وكان الرافعي إذ ذاك ما يزال يعمل كاتباً ومحصلاً مالياً في محكمة طنطا، وهو العمل الذي بدأ به حياته العملية عام 1900م