الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

موسوعة الأخلاق الإسلامية : كتمان السر

كتمان السر

كتمان السر لغة واصطلاحاً
الكتمان لغة:
كتم الشيء من باب نصر وكتمانا أيضا بالكسر، واكتتمه. وسر كاتم: أي مكتوم، ومكتم بالتشديد بولغ في كتمانه. واستكتمه سره: سأله أن يكتمه وكاتمه سره. ورجل كتمة، بوزن همزة إذا كان يكتم سره (1).
الكتمان اصطلاحاً:
الكتمان هو: ستر الحديث (2).
وعرفه الميداني بقوله: (هو ضبط النفس ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها) (3).
السر لغة:
السِّرُّ: الَّذِي يُكْتَمُ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ. والسَّرِيرَةُ مِثْلُهُ وَجَمْعُهَا سَرَائِرُ، وَرَجُلٌ سِرِّيٌّ: يصنع الأَشياءَ سِرّاً مِنْ قَوْمٍ سِرِّيِّين. والسرِيرةُ: كالسِّرِّ، وَالْجَمْعُ السرائرُ (4).
السر اصطلاحاً:
السر هو: الحديث المكتتم في النفس (5).
الكلمات المترادفة لكتمان السر:
(يقال: كتم فلان سره، واكتتمه وقد كتمه عني، وكتمه مني، وكتمنيه، وكاتمنيه، وأخفاه عني، وواراه عني، ووراه، وستره، وأضمره، وغيبه، وزواه، وطواه، ولواه، ودفنه، وكنه، وأكنه، وأجنه، وخزنه، وصانه، وحصنه، وضنبه، وقد أسر نجواه عني، وأسر عني ذات نفسه، وستر عني مخبآت صدره، ودافعني عن دخلة ضميره، وأمسك على ما في نفسه) (6).

(1) ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 266).
(2) ((المفردات)) للراغب الأصفهاني (ص 702).
(3) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 343).
(4) انظر ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 356). و ((تاج العروس)) للزبيدي (12/ 5).
(5) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص 193).
(6) ((نجعة الرائد)) لليازجي (2/ 89).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الفرق بين الكتمان والسر والنجوى والاختفاء
الفرق بين النجوى والسر:
(أن النجوى: اسم للكلام الخفي الذي تناجي به صاحبك كأنك ترفعه عن غيره وذلك أن أصل الكلمة الرفعة، ومنه النجوة من الأرض، وسمي تكليم الله تعالى موسى عليه السلام مناجاة لأنه كان كلاما أخفاه عن غيره.
والسر: إخفاء الشيء في النفس، ولو اختفى بستر أو وراء جدار لم يكن سرا، ويقال في هذا الكلام سر تشبيها بما يخفي في النفس، ويقال سري عند فلان تريد ما يخفيه في نفسه من ذلك ولا يقال نجواي عنده، وتقول لصاحبك هذا ألقيه إليك تريد المعنى الذي تخفيه في نفسك، والنجوى تتناول جملة ما يتناجى به من الكلام، والسر يتناول معنى ذلك وقد يكون السر في غير المعاني مجازا تقول فعل هذا سرا وقد أسر الأمر، والنجوى لا تكون إلا كلاما) (1).
الفرق بين الكتمان والسر:
(قيل: المكتوم يختص بالمعاني كالأسرار والأخبار، لأن الكتمان لا يستعمل إلا فيهما.
والمستور يختص بالجثث والأعيان، لأن الأصل في السر تغطية الشيء بغطاء. ثم استعمل في غيرها تجوزا) (2).
الفرق بين الكتمان والاختفاء:
(أن الكتمان هو السكوت عن المعنى وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة: 159] أي يسكتون عن ذكره.
والإخفاء: يكون في ذلك وفي غيره، والشاهد أنك تقول أخفيت الدرهم في الثوب ولا تقول كتمت ذلك وتقول كتمت المعنى وأخفيته فالإخفاء أعم من الكتمان) (3).

(1) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص533).
(2) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص448).
(3) ((الفروق)) لأبي هلال العسكري (ص447).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الحث على كتمان السر في القرآن والسنة
الحث على كتمان السر من القرآن الكريم:
- قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27 - 28].
(كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون) (1).
- قال تعالى حكاية عن كتمان يوسف عليه السلام للرؤيا التي رآها بأمر من أبيه: قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف: 5].
قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما فخشي يعقوب، عليه السلام، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدا منهم له؛ ولهذا قال له: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5] أي: يحتالوا لك حيلة يردونك فيها ... ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر) (2).
وقال سبحانه في مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 28].
الحث على كتمان السر من السنة النبوية:
- عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (3).
قال النووي: (في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (4) وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم ((إني لأفعله أنا وهذه)) (5) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة ((أعرستم الليلة)) (6) وقال لجابر ((الكيس الكيس)) (7)) (8).

(1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 42).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 371).
(3) رواه مسلم (1437).
(4) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه مسلم (350) من حديث عائشة رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري (5470)، ومسلم (2144) من حديث أنس رضي الله عنه.
(7) رواه البخاري (2097)، ومسلم (715) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 8).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (1).
- وعن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)) (2).
(أي كونوا لها كاتمين عن الناس واستعينوا بالله على الظفر بها ثم علل طلب الكتمان لها بقوله ((فإن كل ذي نعمة محسود)) يعني إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم وموضع الخبر الوارد في التحدث بالنعمة ما بعد وقوعها وأمن الحسد وأخذ منه أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه ويجتهدوا في طي سرهم) (3).
- وعن جابر- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)) (4).
قال المناوي في شرحه لهذا الحديث: (قوله: ((إذا حدّث الرجل)) أي الإنسان فذكر الرجل غالبي ((الحديث)) وفي رواية أخاً له بحديث وفي أخرى إذا حدث رجل رجلاً بحديث ((ثم التفت)) أي غاب عن المجلس أو التفت يميناً وشمالاً فظهر من حاله بالقرائن أن قصده أن لا يطلع على حديثه غير الذي حدثه به (فهي) أي الكلمة التي حدثه بها (أمانة) عند المحدث أودعه إياها فإن حدث بها غيره فقد خالف أمر الله حيث أدّى الأمانة إلى غير أهلها فيكون من الظالمين فيجب عليه كتمها إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق قالوا وهذا من جوامع الكلم لما في هذا اللفظ الوجيز من الحمل على آداب العشرة وحسن الصحبة وكتم السر وحفظ الود والتحذير من النميمة بين الإخوان المؤدية للشنآن ما لا يخفى) (5).

(1) رواه أبو داود (4869)، وأحمد (3/ 342) (14734). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9174)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5914).
(2) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/ 94)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 215)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 34) (6228). وضعف سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1086)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 198): فيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (985).
(3) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 493).
(4) رواه أبو داود (4868)، والترمذي (1959)، وأحمد (3/ 379) (15104). وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (561)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (486).
(5) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 329).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أقوال السلف والعلماء في كتمان السر
- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (سرك أسيرك فإن تكلمت به صرت أسيره) (1).
- وقال عمرو بن العاص: (عجبت من الرجل يفر من القدر، وهو مواقعه! ويرى القذاة في عين أخيه، ويدع الجذع في عينه! ويخرج الضغن من نفس أخيه، ويدع الضغن في نفسه! وما وضعت سري عند أحد فلمته على إفشاءه، وكيف ألومه وقد ضقت به ذراعا؟) (2).
- وقال أيضاً: (ما وضعت سري عند أحد أفشاه علي فلمته، أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه) (3).
- وأسرَّ معاوية رضي الله عنه إلى الوليد بن عتبة حديثا، فقال لأبيه: يا أبت، إن أمير المؤمنين أسرَّ إلي حديثا، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به، فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه) قال: قلت: يا أبت، وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين أبيه؟ قال: لا والله يا بني، ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر). فأتيت معاوية رضي الله عنه فحدثته، فقال: يا وليد، أعتقك أخي من رق الخطأ (4).
- وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية الأسرار، والشفاء أقفالها والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره (5).
- وعن الحسن رحمه الله، قال: (سمعته يقول: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك) (6).
- وقال أبو حاتم: (من حصن بالكتمان سره تم له تدبيره وكان له الظفر بما يريد والسلامة من العيب والضرر وإن أخطأه التمكن والظفر والحازم يجعل سره في وعاء ويكتمه عن كل مستودع فإن اضطره الأمر وغلبه أودعه العاقل الناصح له لأن السر أمانة وإفشاؤه خيانة والقلب له وعاؤه فمن الأوعية ما يضيق بما يودع ومنها ما يتسع لما استودع) (7).
- وقال أيضاً: (الإفراط في الاسترسال بالأسرار عجز وما كتمه المرء من عدوه فلا يجب أن يظهره لصديقه وكفى لذوي الألباب عبرا ما جربوا ومن استودع حديثا فليستر ولا يكن مهتاكا ولا مشياعا لأن السر إنما سمي سرا لأنه لا يفشى فيجب على العاقل أن يكون صدره أوسع لسره من صدر غيره بأن لا يفشيه) (8).
- وقال: (الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها ومن لم يكتم السر استحق الندم ومن استحق الندم صار ناقص العقل ومن دام على هذا رجع إلى الجهل فتحصين السر للعاقل أولى به من التلهف بالندم بعد خروجه منه ولقد أحسن الذي يقول:
خشيت لساني أن يكون خؤونا ... فأودعته قلبي فكان أمينا
فقلت ليخفى دون شخصي وناظري ... أيا حركاتي كن في سكونا) (9)
- وقال ابن الجوزي: (رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟!) (10).
- وقال الراغب الأصفهاني: (إذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء) (11).

(1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (306).
(2) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (886)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (ص309). وصحح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (685).
(3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص214).
(4) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص214)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (38/ 271).
(5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).
(6) ((الصمت وآداب اللسان)) لابن أبي الدنيا (ص 214).
(7) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 189).
(8) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 190).
(9) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 191).
(10) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص 273).
(11) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص 213).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أنواع السر
قال الراغب الأصفهاني: السر ضربان؛ أحدهما: ما يلقي الإنسان من حديث يستكتم وذلك إما: لفظًا كقولك لغيرك: أكتم ما أقول لك، وإما: حالًا وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده، أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسيه، ولهذا قيل: إذا حدَّثك الإنسان بحديث فالتفت فهو أمانة.
والثاني: أن يكون حديثًا في نفسك بما تستقبح إشاعته أو شيئًا تريد فعله، وإلى الأول من ذلك أشار النبي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى منكم من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر اللَّه)) (1)، وإلى الثاني أشار من قال: ((من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه)) (2).
وكتمان النوع الأول من الوفاء ويختص بعامة الناس، والثاني من الحزم والاحتياط، وهو مختص بالملوك وأصحاب السياسات. وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء، والسبب في أنه يصعب كتمان السر هو أن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية. وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن اللَّه تعالى وكَل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها " فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلى حيث ما يجب إطلاقها ولا يخدعنك عن سرك قول من قال: وأكتم السر فيه ضربة العنق.
وقول من ينشدك:
ويكاتم الأسرار حتى كأنه ... ليصونها عن أن تمر بباله
فذلك قول من يستنزلك عما في قلبك، فإذا استفزع ما عندك لم يرع فيه حقك، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر، وما أصدق من أنبأ عن حقيقة حاله حيث قال له صديقه: أريد أن أفشي إليك سرًّا تحفظه عليَّ، فقال، لا أريد أن أوذي قلبي بنجواك، وأجعل صدري خزانة شكواك فيقلقني ما أقلقك، ويؤرقني ما أرقك، فتبيت بإفشائه مستريحًا، ويبيت قلبي بحره جريحًا) (3).

(1) رواه الحاكم (4/ 272)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (1/ 86) (91) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 572) (17601) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1030)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (175).
(2) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 98)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/ 126).
(3) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 212).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فوائد كتمان السر
1 - حفظ الأسرار صفة من صفات المروءة والنبل.
2 - كتمان النصر من أعظم أسباب النصر على الأعداء.
3 - درء مفسدة الحقد والحسد.
4 - تقوي الصلة بين الأخوة.
5 - تقوي الثقة بين الزوجين (1).
6 - كتمان الأسرار سبب من أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح (2).
7 - كتمان السِّرّ كرم فِي النَّفس وسمو فِي الهمة وَدَلِيل على الْمُرُوءَة وَسبب للمحبة ومبلغ إلى جليل الرتبة (3).

(1) انظر ((الرائد .. دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (ص: 217).
(2) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 306).
(3) ((المروءة)) لأبي بكر بن المرزبان (ص 122).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الكتمان المذموم
لا شك أن الأصل في السر كتمانه وعدم إفشائه، لكن هناك أمور تستثنى من هذا الأصل منها:
1 - كتمان العلم:
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أوتي علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار)) (1).
2 - كتمان الشهادة:
قال تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283].
وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140].
3 - بعض المجالس لا حرمة لأسرارها:
قال صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) (2).
4 - كتمان العيب في البيع والشراء:
فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) (3).

(1) رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الترمذي، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8732)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6284).
(2) رواه أبو داود (4869)، وأحمد (3/ 342) (14734). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (9174)، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5914).
(3) رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،صور كتمان الأسرار
1 - كتمان الطاعات:
المسلم لا بد أن يحرص في كتم أموره التعبدية، قال تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55].
وذكر صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) (1).
2 - كتمان الذنوب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المَجَانة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (2).
وعن زيد بن أسلم)) أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال دون هذا فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثم قال أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) (3).
(هذان الحديثان يدلان على أن الإنسان مكلف بحفظ أسرار نفسه، سواء كانت هذه الأسرار من القاذورات أو الخيرات. فمن فعل شرا وكتمه في نفسه، ولم يذعه للغير، ثم تاب إلى الله توبة صادقة، ستره الله تعالى بستره وتاب عليه. وأما إذا اعترف به، وجب عليه الجزاء المقرر في الشريعة الإسلامية كالحدود والتعزير) (4).
3 - كتمان قضاء الحاجات:
من يريد أن يقوم بعمل ما عليه أن يكتمه وأن لا يحدث به كل أحد حتى يقوم بإكماله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بكتمان قضاء الحوائج فقال: ((استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)) (5).
4 - كتمان الأسرار الزوجية:
كتمان الأسرار الزوجية من الأمور (التي يجب حفظها وعدم إفشائها ما يكون بين الرجل وامرأته، فهو أولاً حق المرأة في عدم إفشاء ما يكون منها لزوجها، وهو ثانياً حق الآداب الإسلامية العامة التي توصي بستر مثل هذه الأمور، فالمرء مستأمن عليها من جهتين، جهة الآداب الإسلامية، وجهة صاحب الحق الخاص) (6).
فعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) (7).
5 - كتمان الرؤيا المكروهة:

(1) رواه البخاري (1423)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (6069) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه مالك (2/ 825) (12)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 565) (17574) من حديث زيد بن أسلم رحمه الله. قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 617): رواه الشافعي، عن مالك باللفظ المذكور، ثم قال: هذا حديث منقطع. وضعفه الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/ 363).
(4) ((كتمان السر وإفشاؤه)) لشريف بن أدول (ص 101).
(5) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/ 94)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 215)، والبيهقي في ((الشعب)) (9/ 34) (6228). وضعف سنده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1086)، وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 198): فيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ. وضعفه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (985).
(6) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 346).
(7) رواه مسلم (1437).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره)) (1).
قال ابن حجر: (وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء أن يتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا ولا يذكرها لأحد أصلا) (2).
6 - كتمان أسرار الدولة:
اهتم الإسلام بأسرار الدولة الإسلامية وخاصة الأسرار الحربية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتم أسرار خططه في الغزوات، فكان من هديه إذا كان يريد غزوة ورَّى بغيرها.
وأرسل سرية بقيادة عبد الرحمن بن جحش (وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به صلى الله عليه وسلم، ولا يستكره من أصحابه أحدا فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف وترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)) فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد) (3).

(1) رواه البخاري (6985).
(2) ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 370).
(3) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 602).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،كتمان السر عند النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتم أسرار خططه في الغزوات، وكان من هديه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها.
- وقد بعث صلى الله عليه وسلم سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلاً بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي، ومعه رسالة مكتومة أمره الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يفتحها إلا بعد يومين من مسيره، فإذا فتحها وفهم ما فيها، مضى في تنفيذها غير مستكره أحداً من أفراد قوته على مرافقته (1).
- وكان للكتمان أثر كبير في مباغتة النبي صلى الله عليه وسلم للعدو:
(فبعد شهرين من غزوة أحد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد يحرضان قومهما بني أسد بن خزيمة لغزو المدينة المنورة ونهب أموال المسلمين فيها. وقرر النبي صلى الله عليه وسلم إرسال جيش من المسلمين وأمرهم بالسير ليلاً والاستخفاء نهاراً، وسلوك طريق غير مطروقة حتى لا يطلع أحد على أخبارهم ونياتهم فباغتوا بذلك بني أسد في وقت لا يتوقعونه) (2).
- وفي غزوة (دومة الجندل) قاد النبي صلى الله عليه وسلم ألف راكب وراجل من المهاجرين والأنصار لمنع القبائل التي تقطن (دومة الجندل) من قطع الطرق ونهب القوافل، والقضاء على حشودها التي تزمع غزو المدينة المنورة.
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين من المدينة المنورة يكمن بهم نهاراً ويسير ليلاً، وقد قطع المسلمون المسافة بين المدينة المنورة و (دومة الجندل) فلم يجد المسلمون أحداً منهم ... وعاد المسلمون من (دومة الجندل) بعد أن أقاموا فيها بضعة أيام. إن كتمان نيات المسلمين بالمسير ليلاً هو الذي جعلهم ينتصرون على أعدائهم (3).
- وفي غزوة فتح مكة المكرمة بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق عامل الكتمان حد الروعة حتى ليمكن اعتبار هذه الغزوة مثالا من أعظم أمثلة التاريخ العسكري في تطبيق الكتمان إلى أبعد الحدود.
وأمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً من المسلمين في الداخل أو الخارج بنياته وأهدافه من حركته واتجاهها، بل أخفى نياته وأهدافه واتجاه حركته حتى عن أقرب المقربين إليه، ولما اقترب موعد الحركة صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة المكرمة، ولكنه بث عيونه وأرصاده ليحول دون وصول أخبار اتجاه حركته إلى قريش، وبعث حاطب بن أبي بلتعة رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة المكرمة، أخبرهم في تلك الرسالة بنيات المسلمين في التوجه إلى فتح مكة المكرمة (4). فعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت عليا رضي الله عنه، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صدقكم، قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (5).

(1) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 602).
(2) ((الرسول القائد)) (203).
(3) ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص 23).
(4) ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص 31).
(5) رواه البخاري (3007)، ومسلم (161).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج للصحابة في كتمان السر
- روى البخاري عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: ((فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم «خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه» فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها)) (1).
- وعن عائشة قالت: ((كن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا فلما رآها رحب بها فقال: مرحبا بابنتي. ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت. فقلت لها خصك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتها ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت ما كنت أفشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سره. قالت فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك. قالت فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة. قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت)) (2).
- وعن ثابت عن أنس- رضي الله عنهما- قال: ((أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان- قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة. فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت)) (3).
- وكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن خيثمة بن أبي سبرة قال: (أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فيسر لي أبا هريرة فجلست إليه فقلت له إني سألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فوفقت لي فقال لي ممن أنت؟ قلت من أهل الكوفة جئت ألتمس الخير وأطلبه قال أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة وابن مسعود صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغلته وحذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه وسلمان صاحب الكتابين؟) (4).

(1) رواه البخاري (4005).
(2) رواه البخاري (3623)، ومسلم (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه مسلم (2482).
(4) رواه الترمذي (3811)، والحاكم (3/ 443). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في ((تخريج المشكاة)) (6232).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،صفات أمين السر
ذكر الماوردي بعض الصفات التي يلزم أن تتوفر على الشخص الذي يؤتمن على السر، فقال:
1 - (أن يكون ذا عقل صاد.
2 - ودين حاجز.
3 - ونصح مبذول.
4 - وود موفور.
5 - وكتوما بالطبع.
فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة) (1).

(1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،حكم وأمثال في كتمان السر
- (كن على حفظ سرك أحرص منك على حقن دمك.
- من وهن الأمور إعلانه قبل إحكامه.
- لا تنكح خاطب سرك.
- كلما كثر خزان الأسرار ازدادت ضياعاً.
- قلوب العقلاء حصون الأسرار.
- انفرد بسرك، ولا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون) (1).
- وقيل: أصبر النّاس من صبر على كتمان سرّه فلم يبده لصديقه.
الصّبر على التهاب النار أهون من الصّبر على كتمان السرّ (2).
· صدرك أوسع لسرك (3).
- وقيل في ذمّ مفش سرّه:
فلان أنمّ من النسيم على الرياض، ومن العين منها الصفو والكدر،
- وقيل: وهو أضيع للأسرار من الغربال للماء (4).
- وقيل في الأحوال التي يفشو فيها السر:
قال يحيى بن خالد: (الرجل ينبئ عن نفسه في ثلاثة مواضع: إذا اضطجع على فراشه، وإذا خلا بعرسه، وإذا استوى على سرجه) (5).
- وقيل فيمن يحفظ سرّه ويستحفظه غيره:
- قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
- وقال بشّار:
تبوح بسرّك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم
- وقال دعامة بن يزيد الطائي:
إذا ما جعلت السرّ عند مضيع ... فإنّك ممّن ضيّع السرّ أذنب (6)
- وقيل لعدي بن حاتم رحمه الله: أي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام، وإضاعة السرّ، والثقة بكل أحدٍ (7).
- وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته (8).

(1) ((التمثيل والمحاضرة)) لأبي منصور الثعالبي (ص 420).
(2) ((مجمع الأمثال)) للميداني (ص 396).
(3) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162).
(4) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162).
(5) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162).
(6) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (ص 162).
(7) ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (ص 243).
(8) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (ص 83).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،كتمان السر في واحة الشعر ..
قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-:
قال: أنس بن أسيد:
ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت وشاة الرجال ... لا يتركون أديما صحيحا (1)
وقال علي بن محمد البسامي:
تبيح بسرك ضيقا به ... وتبغي لسرك من يكتم
وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لا تخافنه أحزم
إذا ذاع سرك من مخبر ... فأنت وإن لمته ألوم (2)
وقال آخر:
إذا المرء أفشى سره بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق (3)
وقال عبد العزيز بن سليمان:
إذا ضاق صدر المرء عن بعض سره ... فألقاه في صدري فصدري أضيق
ومن لامني في أن أضيع سره ... وضيعه قبلي فذو السر أخرق (4)
وقال بعض الشعراء:
وسرك ما كان عند امرئ ... وسر الثلاثة غير الخفي
وقال آخر:
فلا تنطق بسرك كل سر ... إذا ما جاوز الاثنين فاشي (5)
وقال بعض الشعراء:
ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... مني الضلوع على الأسرار والخبر
لكنت أول من ينسى سرائره ... إذا كنت من نشرها يوما على خطر
وحكي أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال ابنه:
ومستودعي سرا تضمنت سره ... فأودعته من مستقر الحشى قبرا
ولكنني أخفيه عني كأنني ... من الدهر يوما ما أحطت به خبرا
وما السر في قلبي كميت بحفرة ... لأني أرى المدفون ينتظر النشرا (6) ...

(1) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 307).
(2) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 188).
(3) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 307).
(4) ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (ص 188).
(5) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).
(6) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص 308).