الصفحات

الخميس، 31 أكتوبر 2019

المقال الإسبوعي: نعيب زماننا والعيب فينا

نعيب زماننا والعيب فينا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين يقول الشاعر:
نعيـب زماننا والعيــب فينـا ... وما لزماننا عيب ســـــوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ... ولو نطق الزمان لنا هجانا
يبريء الزمان من عيوبنا وفساد عقولنا وأمراض قلوبنا فهى من صنع أيدينا
وإن كنت تؤمن أن للكون ربا خالقا مدبرا فاعلم يقينا أنه لم يخلقنا ولم يخلق الكون عبثا، ولم يخلقنا ويخلق الكون بغير نظام محكم يسير فيه المسير ويدل عليه العاقل المختار
وكما أن للأفلاك فى الكون قوانين تحكمها وتسير عليها حركتها وعلاقتها بما حولها بنظام دقيق ، من مجرات ونجوم وكواكب وأقمار ,,,، وكما أن فى الجانب المسير من البشر ذات النظام المحكم فى الخلية وعضياتها وفى الذرة وتركيبها كذلك وبلا ريب حياة البشر على الأرض فى ذواتهم وفى علاقاتهم مع الآخرين من بنى البشر وفى علاقاتهم بالأرض ومحتوياتها وبالكون وأفلاكه ذات النظام الذى لا يخل عن منظومته المحكمة بغية الحياة المستقرة السعيدة إلا حين نغير هذا النظام فينا ونظن أننا نسير بمعزل عن نظام الكون أو وكأننا من خلقنا أنفسنا وليتنا ساعتها نعى مسؤولية قيمة الخلق والتدبير
يقول تعالى (ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس لنذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون)
سورة الروم الآية 41
 لنتجول سريعا فى محراب هذا النظام ونقف على بعض قوانينه 
1 - خلق الإنسان بداية مختارا مريدا حرا عاقلا 
هكذا خلقه الله وهكذا أراده لعبادته فينبع الإيمان منه حين يصل إليه حبا ويقينا لو أشع نورا فى الكون لأنار ظلمته
فلا ينبغى لإنسان أن يستغنى عن عقله وعن التفكر والتدبر والتأمل والمضي على طريق الحكمة ، فيفرض الفروض ويستنتج ويغوص فى أعماق كل فكرة ولا ينبغى له أن يكون إمعة ولا أن يكون تابعا بلا وعي ولا أن يصبح لعبة فى يد من يحركها ولا أن يكون قطعة على رقعة شطرنج
ويستعين بعقله على أن يحقق مراد الله فى أوامره ونهواهيه وتوجيهاته ليس فقط على مستوى اتباع القالب وإنما فى إيجاد كل وسيلة تناسب كل عصر وكل مكان تحقق المراد وهذه المسألة ربما هى المعضلة التى تواجه المجتمعات المسلمة اليوم ظنا منهم أن تحقيق مراد الله له نظرة ضيقة بعيدا عن استعمال العقل والحكمة والذكاء والفطنة وإيجاد آليات هى فى ذاتها مراد الله وشرعه وتوجيهه وأمره
ولا يصح لعاقل أن يتنازل عن حريته المسؤولة التى تعينه على أن يفكر ويختار عن قناعة ، فإن كان الله أراد أن يؤمن به دون إكراه وهو رب العالمين وفى أعظم وأهم غاية بل هى الغاية العظمى وهى قضية الإيمان والكفر والطاعة والمعصية فمن باب أولى ومن البديهي أن تكون حريته لازمة له فيما دون ذلك 
ثم على الإنسان أن يتحلى بالأهلية لأن يختار بعد رحلته مع العقل والحرية ويكون مسؤولا عن اختياره أمام نفسه وأمام مجتمعه وقبل ذلك أمام ربه، وعليه أن يتحلى بعد ذلك وتكون لديه الشجاعة أن ينمى لديه الإرادة التى تحول المسار من فكرة وقناعة لواقع ومعايشة
2 - فى علاقة الإنسان مع ربه 
عليه أن يتحلى بالأخلاق الربانية كالتقوى والخشية والزهد والورع فينعكس على سلوكياته مع الآخرين إذ أن ساعتها لن يكون متملقا ولا منافقا ولا مرائيا لأنه يعامل ربه قبل أن يعامل البشر
3 - فى علاقته مع الأخرين 
عليه أن يتجمل ويتحلى بالأخلاق الإنسانية كالإيثار والإحسان والصدق والأمانة والإحترام والتقدير والرقة والبشاشة والعفو عند المقدرة ولين الكلم والشجاعة فى الحق وغيرها من الأخلاق التى لو سادت فى أي مجتمع لاجتثت كل المنغصات والشحناء والتباغض والفرقة
4 - على صعيد الأسرة 
يقترن شريكا الحياة بالإختيار النابع من القناعة والتفاهم والراحة المتبادلة ثم لهما بعد ذلك ولكليهما معا الحق فى الإنفصال إن استحالت الحياة وذلك ليشعر كل طرف أن النابع من استمرار الحياة هو الألفة والحب والقناعة لا الإكراه فتتحول الأسرة رغم ما يعتريها من مشكلات وعوائق لبستان يثمر أحلى الثمر 
ومن ثمار الأسرة الأبناء فعلى الأبوين أن يحسنا تربيتهم وأن يكونا أهلا لذلك من خلال العلم والدراسة فلكل عمر طريقة وأسلوب فى التربية ، ومن المهم جدا مراعاة الجانب النفسي والمزاجي والإخلاقي والأهم أن ينشأ الإبن ملديه اتزان نفسي ولعل هذه المسألة تغيب عن كثير من الآباء وبسببها يعانى كثير من الأبناء صراعا طويلا مع النفس ومع الحياة عند البلوغ ومواجهة الحياة والمجتمع 
ثم عليهما أن ينمو فيهم حب القراءة والمعرفة والإطلاع من الطفولة المبكرة وعليها أن يعيا تماما أهمية العلم فى حياة أبنائهما
5 - على صعيد المجتمع:
أشرنا قبلا إلى أهمية أن يتحلى كل مجتمع بالأخلاق الإنسانية التى تحمى المجتمع أي مجتمع من الإنزلاق فى هاوية الفرقة رغم الإختلاف المهم فى تنوع مصادر النضج وهى صفة حتمية 
من المهم أن تسود فى أي مجتمع فكرة المساواة وأن الكل سواسية كأسنان المشط ولا فرق على أي أساس عنصري أو طبقي أو مادي أو عرقي 
وأن تكون المعاملة والتقدير على أساس ما يقدمه الفرد لمجتمعه من خير لا على أساس حسبه أو نسبه أو منصبه أو ماله أو نفوذه
6 - على مستوى الدولة:
أن تتحق العدالة والمساواة ونفاذ القانون على الكبير قبل الصغير وعلى المسؤول قبل غيره وعلى الراعي قبل الرعية
على الدولة أن تحقق الكرامة الإنسانية التى هى منحة ربانية لا ينبغى لمخلوق أن ينزعها أو أن يسلبها ( ولقد كرمنا بنى آدم )
وعلى الدولة أن تحقق أساليب النظام الرباني الإلهى التى عرفتها دول ومجتمعات فتقدمت وسعدت كتحقيق كل طريقة تحقق ذلك كالتعددية والمحاسبة والمساءلة وتداول السلطة وتعدد الآراء 
وكما يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وربما يسأل سائل عن مسألة تداول السلطة فيقول لم يحدث ذلك فى صدر الإسلام ونقول له لو رأي الصحابة وقتها أن تداول السلطة وآليات دولة المؤسسات العصرية ستحقق المراد مما أراده الله كمنع الفساد والإستبداد والإحتكار لنادوا به وطبقوه رغم أن ما فعلوه وقتها وفى ظروف حكمهم لا تقل عن يومنا بل ربما تزيد 
ولعلنا نذكر كيف كانت ولاية أبى بكر فى أحداث السقيفة - تلك الطريقة فى الإختيار والتى للأسف لم تستمر طويلا فى تاريخ المجتمعات المسلمة - حين اختير الصديق باختيار الناس دون اكراه ولا بحد السيف وكيف سن الصديق فى هذا الوقت المبكر مباديء المحاسبة والمساءلة والمساواة (وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينونى وإن اسأت فقومونى)
بيد أن وفى هذه المسألة يظن الناس أن الإتباع قالب جامد بحيث نعيد ما فعله السلف بحذافيره رغم أن لكل عصر ما يناسبه شريطة أن يحقق الثمار والإهداف والغايات حتى أن الصحابة طوروا وغيروا منذ صدر الإسلام واستعانوا بكل طريقة تحقق ذلك 
ومن الجميل أن نذكر قول ابن عقيل أحد أعلام الحنابلة - فيما نقله ابن القيم - :السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحى
وأخيرا
كيف نوجد شعوبا ناضجة تربى نفسها وتسطر فى مجتمعاتها قيمة الإنسان عقلا وقلبا وضميرا، روحا نورانية قبل أن يكون جسدا يأكل ويشرب ويتناسل ويلبس
كيف نحول الفرد لإنسان مسؤول عاقل حر مختار مريد يصنع هو مع أقرانه المجتمع السوي 
إننا لا ننادى بأن نخلق مجتمعات مثالية تعيش فى مثالية الكلمة والحرف ولكنا نأمل أن يوجد واقعا ملموسا 
هذا المجتمع الراقي الذى يؤمن فيه الفرد أنه رمانة الميزان 
ولا يكون ذلك إلا إذا آمن الفرد أنه صنع الله الذى به ينصلح الحال على الأرض ولا يكون ذلك إلا إذا حين يسعى الفرد نحو المثالية داخله وإن استحال وجودها على الأرض
ونكرر ونذكر بالبيتين المنسوبين للشافعي رحمه الله
نعيـب زماننا والعيــب فينـا ... وما لزماننا عيب ســـــوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ... ولو نطق الزمان لنا هجانا

بقلمي : أحمد كلحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ