الصفحات

الأحد، 11 نوفمبر 2012

موسوعة الأخلاق الإسلامية : قابلية الناس لاكتساب الأخلاق

قابلية الناس لاكتساب الأخلاق

هل الناس لهم قابلية لاكتساب الأخلاق؟ هنا (يرد سؤالان: الأول: إذا كانت الأخلاق طباعاً فطرية، فلماذا وضع الإنسان تجاهها موضع الابتلاء والتكليف؟
الثاني: إذا كانت الطبائع الإنسانية هي المهيمنة على سلوك الإنسان الشامل للسلوك الأخلاقي وغيره، وهذه الطبائع ذات نسب فطرية متفاوتة، فما هي فائدة التربية الأخلاقية؟ وهل باستطاعة الإنسان أن يعدل من طبائعه الخلقية الفطرية، ويكتسب من الأخلاق ما ليس في فطرته؟
... في الإجابة على السؤالين:
لدينا حقيقة ثابتة لابد من ملاحظتها في مجال كل تكليف رباني: هي أن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فمسؤولية الإنسان تنحصر في نطاق ما يدخل في وسعه، وما يستطيعه من عمل، أما ما هو خارج عن وسع الإنسان واستطاعته فليس عليه مسؤولية نحوه، يضاف إلى ذلك أن نسبة المسؤولية تتناسب طرداً وعكساً مع مقدار الاستطاعة.
فالقوي يأتي امتحانه على نسبة قوته، وكذلك الضعيف يأتي امتحانه على نسبة ضعفه، وامتحان الذكي على مقدار ما منحه الله من ذكاء، وامتحان الغبي على مقدار غبائه:
أما صور الامتحان فكثيرة مختلفة، فبعض الناس يمتحنه الله بالغنى، وبعضهم يمتحنه بالفقر، وبعضهم يمتحنه بأن يكون قائداً، وبعضهم يمتحنه بأن يكون جندياً، وبعضهم يمتحنه بكثرة البنين، وبعضهم يمتحنه بكثرة البنات، وبعضهم يمتحنه بالصنفين معاً، وبعضهم يمتحنه بالعقم، وهكذا إلى سائر الصور المشحونة بها ظروف الحياة الدنيا.
والله تعالى يمتحن كل إنسان بما يناسبه، وعلى مقدار ما منحه من هبات وعطايا، وعلى مقدار استطاعته الجسدية والنفسية، ثم تكون المحاسبة بعد ذلك على مقدار نسبة الامتحان، ويكون الجزاء العادل على مقدار الطاعة والجهد المبذول نفسياً وجسدياً، أو على مقدار المعصية والجهد الذي كان يمكن بذله في الطاعة.
وميزان الله تعالى لا يضيع منه مثقال ذرة، والعلم الإلهي لا يعزب عنه صغيرة ولا كبيرة من نية أو عمل، والقانون الذي يطبقه الله على المكلفين من عباده، هو المعلن بقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8]، والمعلن بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] وقوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
فما كان من الطباع الفطرية قابلاً للتعديل والتبديل، ولو في حدود نسب جزئية، لدخوله تحت سلطان إدارة الإنسان وقدرته، كان خاضعاً للمسؤولية، وداخلاً في إطارها تجاه التكاليف الربانية، وما لم يكن قابلاً للتعديل والتبديل، لخروجه عن سلطان إرادة الإنسان وقدرته، فهو غير داخل في إطار المسؤولية تجاه التكاليف الربانية.
وبناء على ذلك فإننا نقول وفق المفاهيم الدينية: لو لم يكن لدى كل إنسان عاقل قدرة على اكتساب حد ما من الفضائل الأخلاقية، لما كلفه الله ذلك.
وليس أمر قدرة الإنسان على اكتساب حد ما من كل فضيلة خلقية بعيداً عن التصور والفهم، ولكنه بحاجة إلى مقدار مناسب من التأمل والتفكير.
أليست استعدادات الناس لأنواع العلوم المختلفة متفاوتة، فبعضهم أقدر على تعلم الفنون الجميلة من بعض، وبعضهم أقدر على تعلم العلوم العقلية من بعض، وبعضهم أقدر على حفظ التواريخ والحوادث أو حفظ النصوص من بعض؟
إنه مع وجود التفاوت الواسع في هذا بين الناس، نلاحظ أن حداً ما من الاستعداد لتعلم كل أنواع العلوم موجود عند كل أقسام الناس المتفاوتين في قدراتهم واستعداداتهم، وفي حدود استطاعة كل منهم يمكن توجيه التكليف، ويمكن الاستفادة من نسبة الاستعداد، فالاستعداد الضعيف بقدره، والاستعداد القوي بقدره
ونظير هذا الذي نشاهده في الاستعداد للتعلم، نشاهد في الاستعداد الإنساني لاكتساب الأخلاق، فما من إنسان عاقل إلا ولديه قدرة على اكتساب مقدار ما من فضائل الأخلاق، وفي حدود هذا المقدار الذي يستطيعه يكون تكليفه، وتكون مسؤوليته، ثم في حدوده تكون محاسبته ومجازاته.
إن أسرع الناس استجابة لانفعال الغضب، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقداراً ما من خلق الحلم، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب ما يستطيعه منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب تنمو نمو أشواك الغاب، فإنه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.
وإن أشد الناس بخلاً وأنانية وحباً للتملك، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقداراً ما من خلق حب العطاء، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب القدر الواجب شرعاً منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب فإنه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.
والمفطور على نسبة كبيرة من الجبن، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقداراً ما من خلق الشجاعة، قد لا يبلغ به مبلغ المفطور على نسبة عالية من الشجاعة، ولكنه مقدار يكفيه لتحقيق ما يجب عليه فيه أن يكون شجاعاً، وضمن الحدود التي هو مسؤول فيها.
وأشد الناس أنانية في تكوينه الفطري، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقداراً ما من الغيرية والإيثار، قد لا يبلغ فيه مبلغ المفطور على محبة الآخرين، والرغبة بأن يؤثرهم على نفسه، ولكنه مقدار يكفيه لتأدية الحقوق الواجبة عليه تجاه الآخرين.
وهكذا نستطيع أن نقول: إن أية فضيلة خلقية، باستطاعة أي إنسان عاقل، أن يكتسب منها بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم، المقدار الذي يكفيه لتأدية واجب السلوك الأخلاقي.
والناس من بعد ذلك يتفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل.
كما أن كل إنسان عاقل، يستطيع بما وهبه الله من استعداد عام، أن يتعلم نسبة ما من أي علم من العلوم وأي فن من الفنون، وأن يكتسب مقداراً ما من أية مهارة عملية من المهارات.
وتفاوت الاستعدادات والطبائع، لا ينافي وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار ما من أي فرع من فروع الاختصاص، سواء أكان ذلك من قبيل العلوم، أو من قبيل الفنون، أو من قبيل المهارات، أو من قبيل الأخلاق.
وفي حدود هذا الاستعداد العام، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كلا منهم من فطر، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة، زائدة على نسبة الاستعداد العام.
ولو أن بعض الناس كان محروماً من أدنى حدود الاستعداد العام الذي هو مناط التكليف، فإن التكليف لا يتوجه إليه أصلاً، ومن سلب منه هذا الاستعداد بسبب ما ارتفع عنه التكليف، ضرورة اقتران التكليف بالاستطاعة، كما أوضحت ذلك نصوص الشريعة الإسلامية.
ووفق هذا الأساس، جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق واجتناب رذائلها.
ووفق هذا الأساس، وضع الإسلام الخطط التربوية التي تنفع في التربية على الأخلاق الفاضلة، فالاستعداد لذلك موجود في الواقع الإنساني، وإن اختلفت نسبة هذا الاستعداد من شخص إلى آخر. وفي الإصلاح التربوي قد يقبل بعض الناس بعض فضائل الأخلاق بسهولة، ولا يقبل بعضها الآخر إلا بصعوبة ومعالجة طويلة المدى، وقد تقل نسبة استجابته.
فالأخلاق إذن تنقسم إلى قسمين:
الأول: الأخلاق الفطرية.
الثاني: الأخلاق المكتسبة.
فبعض أخلاق الناس أخلاق فطرية، تظهر فيهم منذ أول حياتهم، ومنذ بداية نشأتهم. وبعض أخلاق الناس أخلاق مكتسبة من البيئة الطبيعية، أو من البيئة الاجتماعية، أو من توالي الخبرات والتجارب ونحو ذلك.
ولكن لابد لاكتساب الأخلاق من وجود الاستعداد الفطري لاكتسابها، وشأن الأخلاق في هذا كشأن المهارات الحركية والعضلية، فالعضو الذي لديه استعداد وقابلية فطرية لاكتساب مهارة من المهارات، يمكن أن يغدو بالتدريب والتعليم مكتسباً لهذه المهارة، أما العضو الذي ليس لديه هذا الاستعداد فإنه من المتعذر تدريبه وتعليمه حتى يكتسب هذه المهارة، وكذلك اكتساب الأخلاق.
إن اليد تملك القابلية الفطرية لاكتساب صناعة الكتابة، والمهارات الصناعية والفنية المختلفة، فتدريبها يجدي في تحقيق نسبة من الاكتساب المطلوب، لكن الأذن لا تستطيع أن تكتسب شيئاً من ذلك، لأنها لا تملك الاستعداد الفطري لاكتسابها.
والأرنب مفطور على خلق الجبن والخور، وليس لديه استعداد فطري للتدرب على شجاعة مقاربة من شجاعة الهر، فتدريبه على الشجاعة لا يجدي في اكتسابه خلق الشجاعة.
وكذلك الأفراد من الناس، فمن لا يملك الاستعداد الفطري لاكتساب خلق من الأخلاق، فمن المتعذر أن يكتسبه بأية وسيلة من الوسائل.
والأخلاق الفطرية قابلة للتنمية والتوجيه والتعديل، لأن وجود الخلق بصفة فطرية يدل على وجود الاستعداد الفطري لتنميته بالتدريب والتعليم وتكرر الخبرات، كما أنه يدل على وجود الاستعداد الفطري لتقويمه وتعديله وتهذيبه، بالتدريب والتعليم وتكرر الخبرات، وتشهد لهذه القابلية التجارب التربوية على الإنسان، والملاحظات المتكررة على أفراد الناس من مختلف البيئات الإنسانية.) (1).

(1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حسن حبنكة (1/ 179).