الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقالات : أنا ونفسى والشيطان بقلم دكتور مصطفى محمود

أنا ونفسى والشيطان
   
بقلم د مصطفى محمود




قالت لي نفسي‏:‏ نارك وجنتك بين جنبيك‏..‏ نارك وجنتك فيما تختار‏,‏ وما تعجل إليه من أقوال وأفعال‏,‏ وماتبادر إليه من عمل وماتمتد إليه يدك من حلال وحرام‏.‏ يدك هي التي تحفر بها قبرك وتصنع بها مصيرك‏,‏ ولسانك هو الذي يهوي بك إلي الهاوية أو يصعد بك إلي أعلي عليين‏..‏ أنت ماتقول وأنت ماتفعل‏.‏ انظر ماذا تفعل تعلم مسكنك‏,‏ وتشهد قيامتك قبل قيامتك وتعلم ساعتك قبل ساعتك‏.‏
قال لي شيطاني مستنكرا‏:‏
وأين أنت الآن من قيامتك وأين أنت من ساعتك؟ هذا الوسواس الشؤم الذي تصحو وتبيت فيه‏..‏ انظر حولك يافتي‏..‏ أنت مازلت في الدنيا اقطف زهرتها‏,‏ وانعم بلذاتها‏,‏ وأمامك فرص التوبة ممتدة بطول عمرك‏..‏ وأنت ماعشت فأنت في رعاية التواب الغفار غافر الذنب وقابل التوب‏..‏ لاتعقد أمورك واضحك للأيام تضحك لك‏..‏

قلت وأنا أتحسب كل كلمة
تضحك لي أو تضحك علي يالعين‏..‏ ومن أدراني أن ما أقول الآن هو آخر أقوالي وما أفعل الآن هو ختام أفعالي‏,‏ وأني ميت اليوم ومن مات فقد قامت قيامته وبدأت ساعته‏.‏

قال شيطاني‏..‏ أعوذ بالله من غضب الله
ماهذا الكابوس الذي تعيش فيه حياة كالموت وموتا كالحياة لم يبق إلا أن تصنع لنفسك تابوتا وتنسج لك كفنا تتمدد فيه‏..‏ أين أنت من هذا اليوم يارجل؟‏!‏

قلت‏:‏
ومن يدريني أن بعد اليوم بعد

قال شيطاني‏:‏
هل أقمت من نفسك قابضا للأرواح وفالقا للإصباح أم أنك المتنبي الذي لا تخيب له نبؤة‏..‏ إلزم غرزك يارجل ما أنت إلا عبد من عباد الله‏..‏ عش يومك كأنك تعيش أبدا‏.‏

قلت‏:‏


ما قالوها هكذا يالئيم‏..‏ بل قالوا‏..‏ إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا‏,‏ واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا‏..‏ أرأيت كيف تقلب كل الحقائق‏.‏

قال شيطاني‏:‏
إنما أردت لك الحياة‏,‏ وأردت أنت لنفسك الموت‏..‏ ومرادي كان دائما مصلحتك‏.‏

قلت‏:‏
بل موت النفوس كان مرادك‏,‏ وهلاكها في الجحيم كان شغلك الشاغل‏,‏ وهمك المقيم ياسمسار الجحيم‏.‏

‏***‏
هل كنت أكلم أحدا؟؟‏..‏ أم كان يكلمني أحد
هل كان حوارا بحق‏..‏ أم كان خيالا‏..‏ أتخيله
إن حديث النفس حقيقة لاشك فيها‏..‏ وهو نوع من الإعجاز الرباني‏..‏ فهو حيث داخلي لايسمعه غيرك‏,‏ ولا يطلع عليه سواك‏..‏ ولايستطيع أي جهاز الكتروني بشري أن يسجله عليك‏..‏ والنفس فيه طرف‏..‏ والطرف الآخر يمكن أن يكون النفس ذاتها‏..‏ ويمكن أن يكون الشيطان‏..‏ وابراهيم الكليم أبو الأنبياء كلمه ربه‏..‏ وهكذا ترتفع المكالمة لكل نفس علي حسب قدرها ومستواها‏.‏
يقول ربنا محادثا موسي في سورة الأعراف الآية‏144‏
ياموسي إني أصطفيتك علي الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏.‏
وحينما تكون وساوس النفس من المستوي الشيطاني‏..‏ يمكن أن يكون الشيطان طرفا في الحديث‏..‏ وحينما ترتفع النفس إلي المستوي الملائكي‏..‏ يمكن أن يكون القرين المتحدث ملائكيا‏..‏ وكلما ارتفع مستوي الحديث ارتفع مستوي المتحادثين‏.‏
وللغيب علومه كما أن للفيزياء علومها وللذرة علومها وللنفس علومها‏.‏
والشيطان حقيقة وليس شخصية روائية خيالية من بنات خيال المؤلفين‏.‏
وفي آخر الزمان حينما تقوم القيامة سوف يعترف الشيطان بما فعل بضحاياه أمام الملأ وأمام الحشر المجتمع من كل الخلائق‏.‏
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم‏(22‏ ـ إبراهيم‏).‏
وهكذا ينزل ستار الختام علي الدراما الكبري للوجود التي استغرقت أجيالا وقرونا من آدم أول الخلق إلي الخاتم محمد بن عبدالله آخر الرسل عليه الصلاة والسلام‏..‏ في كلمات هائلة تتصدع لها القلوب ومشهد جامع يشيب لهوله الولدان‏.‏
وسوف نري الشيطان ساعتها‏,‏ وهو يتكلم في قلب الجحيم وسوف نسمع آخر كلماته
إن الظالمين لهم عذاب أليم
إن الشيطان حقيقة وليس أسطورة
والنار حق
والعذاب حق
إنها ليست أوبرا ياسادة‏..‏ يصفق بعدها الحضور وينزل الستار‏..‏ كما يتصور الأوروبيون المتحضرون عشاق الفن‏.‏
والأمر ليس كما تصوره الرئيس ميتران في الحديث التليفزيوني الذي أجاب فيه علي المذيع الذي سأله‏..‏ ماذا تقول لله حينما تراه ياسيادة الرئيس‏..‏ فأجاب ميتران‏:‏
سوف أقول له
SORRY‏
هكذا قال الرئيس ميتران في بساطة فرنسية
ولا أظن أن الرئيس ميتران سوف يري الله‏..‏ ولا أظنه سوف يقوي علي مكالمته‏.‏
ولا أظنه سوف يجتمع له رشد أمام ذلك المشهد الرهيب أو يبقي فيه لب لينطق‏.‏
وكان آخر ماشهدت من الرئيس ميتران مشهدا لا أنساه أيام حرب الإبادة التي أعلنها الصرب علي مسلمي البوسنة‏.‏
رأيته وقد جاء مسرعا من فرنسا ليري بعينيه مصارع المسلمين في الأرض الأوروبية‏..‏ ووقف يتلفت حوله في ثقة واعتداد‏.‏
أخيرا جاء يوم الطرد النهائي للمسلمين من الأرض الأوروبية
هكذا نطقت عيناه‏..‏ وإن لم تنطق شفتاه‏.‏
وقلت له في نفسي ساعتها
بل لم تنته القصة بعد ياسيادة الرئيس
وقد انتهت حياة ميتران ومات بالسرطان
ولم تنته القصة‏,‏ بل تعددت فصولا‏..‏ فشاهدنا لها فصلا ثانيا في حرب كوسوفا‏,‏ ثم فصلا ثالثا في حرب الشيشان تخوضها روسيا بتمويل أمريكي ومساندة إسرائيلية وسكوت أوروبي‏.‏
والحرب معلنه علي المسلمين في كل مكان هذه الأيام
وللشيطان أعوان من شياطين الإنس بلا عدد‏..‏
ولله شهداء يختارهم كل يوم ليزين صدورهم بأوسمة البطولة
والحرب مستمرة‏..‏ وسوف تتعدد فصولا إلي آخر الزمان‏..‏ حينما ينزل ستار الختام‏..‏ وتعلن الحقائق في مشهد جامع هو يوم القيامة
واعترف بأني شديد الفضول لرؤية السيد ميتران ساعتها‏..‏ شديد الفضول لما سيقول‏..‏ هل سيقول لرب العالمين
SORRY
كما زعم في حديثه الكوميدي في التليفزيون
ليرحمنا الله جميعا‏..‏
فهذا مشهد يشق علي الجبابرة
فما بال الضعفاء أمثالنا
ومازلت أعجب كيف قالها‏..‏ بهذه البساطة الفرنسية
إنه قطعا لم يتصور أنه يتحدث عن واقع سيقع‏..‏ ولم يخطر بباله أبدا أنه سوف يحدث كما تروي الكتب الدينية
والأوروبي العادي يفتح فمه في دهشة إذا قلت له إنه سوف يقوم من الموت ليقف بين يدي الله‏..‏ رب العالمين‏..‏
ولو أنه أيقن بذلك وآمن به‏..‏ لما كان هناك استعمار‏..‏ ولما كانت هناك تلك المجازر البشعة والإبادة المنظمة التي زاولها الرجل الأبيض في حروبه مع السود في إفريقيا وآسيا‏..‏ ومع المسلمين في كل مكان‏..‏
وإنما الظلم كان يملأ صفحات التاريخ ليقين الظالمين بأنه لا قيام بعد الموت ولا حساب ولا مساءلة‏.‏
والكبار كلهم ظنوا أنهم لايموتون ولايحاسبون‏..‏ والذين خطر لهم أنهم يمكن أن يموتوا كان يقينهم أن الله سيبعثهم ملوكا‏..‏ وأن جنة الآخرة لهم‏..‏ كما كانت جنة الدنيا لهم‏..‏ وشيطانهم صنع لهم ذلك الوهم وأقنعهم به‏..‏
وكان قدماء المصريين أكثر من آمن بالبعث والحساب والميزان
ولهذا كان المصريون أكثر الشعوب إنسانية‏.‏
إنه إفك قديم قدم التاريخ حكاية إنكار الناس للبعث وأكثر الشعوب تقدما وأقواها بأسا كانت أكثرها كفرا‏.‏
وهكذا كان ظن جاجارين حينما خرج من جو الأرض إلي الفضاء‏..‏ وكانت أول رسالة أرسلها إلي الشعب الروسي‏..‏ أنا في فضاء بلا نهاية‏..‏ لا وجود لأحد هنا غيري‏..‏ ولم أجد الله‏..‏ وحيثما أتلفت لا أجد إلها‏..‏ لا أحد سواي‏..‏ ورددت أبواق الإذاعة الشيوعية في موسكو لفورها‏..‏ أن جاجارين جاء بالخبر اليقين‏,‏ وأنه لم يجد إلها في السماوات‏.‏
هل تصور جاجارين أنه سيجد الله في شرف استقباله وأن موسيقي الملائكة سوف تعزف له السلام الملكي‏.‏
وقد مات جاجارين بعد ذلك بشهور في حادث تصادم‏..‏ ليس في الفضاء‏..‏ ولكن في الأرض‏..‏ وفي أزقة موسكو كأي كلب ضال‏..‏ ورأي ساعتها ماكان ينكره‏..‏ ولكن بعد فوات الآوان بعد أن أصاب لسانه الخرس وتوقف قلبه عن الخفقان‏..‏ ودفن مع سره في ظلام النسيان‏.‏
وسيظل مابعد الموت طلاسم وظنونا وغيوبا مغيبة
ولن يـكشف السر إلا بعد أن يغلق الباب الدائري خلف كل مرتحل ويستحيل التواصل بينه وبين أحد من الأحياء‏..‏ وفي ظلام الوحدة المطلقة سوف تتجلي له الحقيقة وسوف يري كل شيء‏..‏ وساعتها لن ينفع الندم‏..‏ فكتاب الأعمال أغلق‏..‏ وحياته انتهت‏..‏ ومابقي سوف تتقطع له نياط القلوب‏.‏
والويل لمن لايفهم
إن الله موجود ليس لأن المسلمين يؤمنون بوجوده‏,‏ ولكن لأنه حقيقة مطلقة أزلية لا معني لأي شيء بدونها‏.‏
الله هو سر الجمال‏,‏ والرحمة‏,‏ والمودة‏,‏ والحرية‏,‏ والحياة‏.‏
وأسماؤه الحسني مطبوعة علي الوردة‏,‏ وعلي إشراقة الفجر‏,‏ وعلي ابتسامة الوليد‏,‏ وعلي إطلالة الربيع‏,‏ وعلي كفتي الميزان‏,‏ وعلي صولجان الحكم‏..‏ فهو العدل الحكم‏..‏ وبدونه يستحيل العدل وتستحيل الرحمة وينطمس الكون ويظلم‏,‏ فهو نور السماوات والأرض‏.‏
وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده‏.‏
إن الدين يبدأ به‏..‏ والفلسفة تنتهي إليه‏..‏ والعقل يتوقف عنده‏..‏ فلا كيف ولا كم ولا أين ولا متي‏..!!!‏
وإنما‏..‏ هو‏..‏
ولا إله إلا هو
ولا يملك العقل إلا السجود‏..‏ ولاتملك العين إلا البكاء ندما
رفـعت الأقلام وجفت الصحف
إسألوا لنا ولأنفسكم الرحمة‏..‏
وللتمسوا لنا ولأنفسكم النجاة
لم يبق إلا التوسل‏..‏